آراءتحقيقات

تأملات استشرافية في مستقبل الجغرافيا السياسية

 عبد الرحمن عبدالله سيد احمد هيوستن

من الاقوال التي ترسخت في الاذهان، وكتب لها القبول وحفرت في الوجدان “الجغرافيا هي احد الاقدار Geography is Destiny”. وهذا امر لا شك فيه من حيث العموم.

لكن العبارة ظلت تستخدم في سياق محدد، مفاده ان قوانين الجغرافيا هي التي  تحدد اقدار التجاور والتعاون والتأثر بين الدول، كما انها وزعت المتناقضات (الثروات/الامكانيات والصعوبات/التحديات) بشكل لا يمكن تجاوزه.

هذا السياق الخاص للعبارة لم يعد كذلك في عالم اليوم. فقد لعبت ثورة البينة التحتية infrastructures دورا كبيرا في ربط القارات، والتقريب بين الثقافات واسهمت في التغلب على التحديات. بل انني ازعم ان البنية التحتية المهولة التي غطت الكرة الارضية (من شبكات الطرق والسكة حديد وخطوط نقل النفط والغاز وشبكات الكهرباء وخطوط الالياف الضوئية العابرة للقارات وخطوط الطيران والملاحة البحرية والمطارات والموانيء) قد غيرت من ملامح الجغرافيا بأكملها.

لقد اصبحت الخطوط التي تمثل الحدود الدولية في خرائط اليوم اقل اهمية مقارنة بالخطوط التي تمثل شبكات الكهرباء والانترنت وال pipeline، حتى اصبحنا نعيش في عالم السمة المميزة له هي التواصلية (وهي الترجمة التي راقت لي لمصطلح ال connectivity) وليس الحدود boarders، وهذا ما يدفعني لتعديل العبارة آنفة الذكر الى “التواصلية هي احدى الاقدار Connectivity is Destiny”.2. اذا ما غيرنا نظرتنا التقليدية الى طبيعة العالم الذي نعيش فيه والبنية التحتية التي تربط اطرافه المترامية لوجدنا ان الجغرافيا ليست سوى جسد مهول تتوزع اطرافه بين قارات العالم؛ وان البنى التحتية (الشبكات التي وصفناها آنفا) هي النظام العصبي الذي يتحكم في هذه الاطراف.

هذا التصور (الاقرب الى الميتافيزيقي) كفيل بإحداث ثورة مفاهيمية من خلالها يمكن تصور عالم جديد عابر للدول world beyond states ومجتمع ممتد اقوى ارتباطا واعمق اتصالا بين مكوناته الاحادية (global society).3. هذا التطور المفاهيمي سيغير طريقة تفاعلنا مع الخرائط، فبالإضافة الى الخرائط الطبيعية والخرائط السياسية، سينشأ نوع جديد من الخرائط تركز على توزيع البنى التحتية في الدول و القارات وكيفية ارتباطها واندماجها مع بعضها البعض.

هذه الخرائط “خرائط التواصلية connectivity maps” ستمكننا من فهم واستيعاب الجغرافيا السياسية geopolitics الاقليمية والعالمية وكيفية تفاعلها، والديناميكيات التي تتحكم في القوى العظمى والمدن الكبرى والشركات العابرة للقارات الاضافة الى مستقبل التنافس بين هذه المكونات في الموارد والاسواق والعمالة الماهرة، اننا نعيش بداية عهد جديد تتجاوز فيه المدن الكبرى super cities اهمية الدول، وتتفوق سطوة القوة لسلاسل الامداد Supply Chain على هيمنة الجيوش. بل وربما تتحول اولويات الجيوش من حماية الدول والمدن الى توسيع سلاسل الامداد وتأمينها من الهجمات السريانية او الاضطرابات السياسية والثورات الجماهيرية.

وهنا لابد من التذكير الى الاثر الذي تركته الثورة الايرانية في نهاية السبعينات على سوق النفط العالمي وحركة الملاحة في الخليج العربي. وكيف اثرت الثورة الليبية في العقد الماضي على سعر النفط بل وحتى اسهم شركات الطاقة العالمية.4. المتأمل في المشهد السياسي الدولي ، وتمظهرات الصراع بين الغرب المهيمن (امريكا واوروبا) والشرق المتمرد (روسيا والصين)، لابد ان تستوقفه ظاهرة افول نجم القارة العجوز، ودخول لاعبين جدد على مسرح القرار الدولي لا غرو، فقد اثبتت الايام ان قمة الدول السبعة الكبرى G7 (والتي تشترك جميعا في انتمائها الاثني وثقافتها الغربية باستثناء اليابان) لم تعد تمتلك الادوات اللازمة للتعامل مع القوى الصاعدة.

فجاءت المبادرة الى توسيع مظلة المشاركة عبر تشكيل قمة العشرين G20، والتي مثلت فيها الدول غير الامبريالية ذات الثقافة غير الغربية ١٢ دولة  (روسيا، الصين، اليابان، الهند، البرازيل، كوريا الجنوبية، الارجنتين، تركيا، المكسيك، إندونيسيا، جنوب افريقيا، السعودية). هذا التوسع الكبير لصالح القوى الصاعدة مثل اعترافا صريحا من القوى التقليدية انه لم يعد بوسعها فرض هيمنتها على العالم الجديد. وعلى الرغم من استمرار هيمنة القوى التقليدية على عدد من الفعاليات الدولية وعلى رأسها مجلس الامن الدولي، الا ان حالة الرفض لهذه المؤسسات والاصوات المتعالية والداعية الى ضرورة تصحيح التمثيل فيها، ربما قاد الى اعادة هيكلة هذه المؤسسات ودخول لاعبين جدد مثل الهند وجنوب افريقيا الى مجلس الامن.5. ان ما يميز القارة العجوز هو انها اكثر القارات على الاطلاق من حيث الاندماج في البنى التحتية والتواصل بين اصقاعها المختلفة، الشيء الذي يعطيها ميزة تفضيلية عن بقية القوى الصاعدة. فخطوط السكة حديد وشبكات الكهرباء وانابيب نقل الغاز والطرق البرية المنتشرة في اوروبا جعلت منها دولة واحدة وليس قارة جامعة. ان الصراع المستقبلي بين القوى القادمة سيشمل الهيمنة على خطوط الامداد، الشيء المبشر هو ان هذا الصراع لن يأخذ الطابع الدموي الذي ميز كل الصراعات على مر التاريخ؛ كما انه لن يكون حكرا على دول ال G7. فدولة مثل تركيا ستكون لها من الاهمية الاستراتيجية ما يفوق اهمية دول عظمى مثل اليابان وبريطانيا. فتركيا التي عرفت تاريخيا بأنها ارض الصراع بين اسيا واوروبا، اصبحت تمثل اليوم حلقة الوصل بين القارتين ليس عبر البسفور وخطوط الغاز فقط، ولكن ايضا عبر مطار إستانبول الجديد والذي يعد من اكبر المعابر في اوروبا. كما ان استانبول قد انضمت عن جدارة الى قائمة المدن الكبرى Supper Cities في عالم اليوم، وباتت مأوى للملايين من البشر من مختلف الجنسيات.6. انه لمن المتوقع ان تغير ثورة التواصلية (connectivity) في شكل النشاطات الاقتصادية وخارطة الثروات. سيكون من السهل نسبيا نقل الموارد من مناطق الوفرة الى مناطق الندرة، كما انه سيكون بوسع القوى العاملة التنقل بين مناطق الانتاج في الارياف والبوادي ومراكز المدن. على صعيد آخر، سيكون بوسع المجتمعات تنويع مصادر وارداتها وصادراتها، وايجاد بدائل منطقية في حال حدوث الكوارث البيئية او النزاعات الاقليمية والدولية. لم يكن عالم الاقتصاد المشهور كينز Keynes ينظر الى الانفاق في البنية التحتية على انه نوع من الترف، بل عده استثمار استراتيجي في المستقبل.

وهذا ما دفع بالحكومة الامريكية في فترة الركود الاقتصادي بين الحربين العالميتين الى التوسع الضخم في مشاريع البنى التحتية. حتى تجاوزت مساهمة البنية التحتية في الناتج القومي الاجمالي (حتى منتصف القرن الماضي) نسبة ال ٢٠٪؜، لكن الانخفاض في الصرف على البنية التحتية جعل بعض القوى الصاعدة تتفوق عليها في الكثير من النواحي. في المقابل وجدت بعض الدراسات ان استهلاك الصين من الاسمنت في الفترة من 2008 الى 2020 تجاوز استهلاك الولايات المتحدة خلال قرن من الزمان.

اما دول الخليج فقد سجلت حضورا مشرفا في هذا السباق، حتى تفوقت جودة البنية التحتية فيها على الكثير من دول العالم. بل ان بعض حواضر خليجية مثل دبي والدوحة تماهت مع الامر اكثر مما يجب، فبالغت في الصرف على الابراج والفنادق ومراكز التسوق وملاعب كرة القدم. وقد عبرت زميلتي الامريكية على الامر بشكل تلقائي بعد مشاركتها في معرض اكسبو دبي، وقد اصابها الانبهار بما رأت “لقد تبين لي ان هيوستن ليست سوى مدينة من مدن العالم الثالث. كل شيء في تلك البلاد في غاية الروعة والجمال، لقد اسرفوا في الجمال”.7. قبل ان اختم اريد ان انوه ان مسيرة التواصلية connectivity غالبا ما ستعترضها بعض الصعوبات. فمن المستبعد ان تنظر امريكا الى طريق الحرير (مشروع الصين الحيوي) او خط Nord Stream (مشروع روسيا الاستراتيجي، والذي يمكنها من بيع الغاز الى المانيا) بنوع من الرضا، وربما تحاول اعتراض هذه المشاريع بطريقة او بأخرى. الصين وروسيا بدورهما سيحاولان تعطيل المشاريع الاستراتيجية لامريكا في افريقيا واسيا. وهناك العديد من الشواهد التي يمكن ان نسوقها ونفصل فيها، والتي توضح محاولة مختلف اللاعبين الدوليين والاقليميين في التأثير على المشاريع الاستراتيجية لغرمائهم من الدول والتحالفات. لكن في نهاية المطاف؛ ستتوصل هذه القوى المتصارعة الى حقيقة مفادها؛ ان التعاون والتفاوض خير من التنازع والقطيعة. ودونكم المحاولات الدؤوبة لاعادة ايران الى طاولة التفاوض حول مشروعها النووي. ان التعاون الدولي الكبير الذي شهده قطاع الاتصالات والتكنولوجيا يمثل نموذجا من التعاون الايجابي والذي استفادت منه البشرية.

لقد استخدمت القوى العظمى نوع من البراغماتية، فبينما فضلت امريكا ان تحتكر قطاع البرمجيات والاختراعات software، وجدت الصين فرصتها واحتكرت قطاع الاجهزة hardware والموصلات semiconductors. هذا التعاون جعل الصين هي المستهلك الاول لمنتجات شركة ابل (اول شركة في التاريخ يتجاوز سعرها السوقي حاجز ال 2 ترليون دولار)، وامريكا هي المستهلك الاول لمنتجات التكنلوجيا الصينية.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق