عيسى الجرموني: صوت الريف الجزائري وصدى النضال
جمال قتالة
عيسى مرزوڨي، المعروف فنياً بعيسى الجرموني، وُلد عام 1886 في قرية متوسة بمنطقة خنشلة، وسط الجزائر. يُعد من أبرز رواد الفن الجزائري التقليدي، ومن أوائل الفنانين الجزائريين الذين وصلت أصواتهم إلى قاعات الغناء العالمية، بما في ذلك مسرح الأولمبيا الشهير في باريس. اشتهر الجرموني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بتأديته الأغاني “الريفية”، حيث جمع بين قوة الصوت وعمق المشاعر، مما جعله أحد أهم أيقونات الموسيقى الجزائرية الشعبية.
نشأة متواضعة ومعاناة مبكرة
ولد عيسى الجرموني في أسرة فلاحية فقيرة تنتمي إلى قبيلة أولاد عمارة (الجرمانة). عاش طفولته في ظل الفقر والمعاناة بسبب ظروف الاحتلال الفرنسي، حيث اضطر إلى العمل منذ صغره بجانب والده في الأراضي الزراعية التي كان يستغلها المستعمرون. في هذه البيئة القاسية، وبين الحقول والجبال، بدأ الجرموني يكتشف موهبته الغنائية، حيث كان يُغني أثناء رعي الأغنام للتغلب على الوحدة والعزلة. كانت تلك اللحظات الأولى التي طوّر فيها عيسى أسلوبه الفريد في التعبير عن مشاعره باللحن والغناء.
مسيرة فنية رغم الأمية
على الرغم من أميته، تمكن الجرموني من صياغة كلمات أغانيه بمساعدة بعض الشعراء المحليين مثل بوفرايرة والشيخ مكي بوقرصة. كان يغني بكل ما يشعر به دون تكلف، مما أكسبه شهرة واسعة لدى جمهور الريف الجزائري الذي رأى فيه معبراً صادقاً عن معاناتهم وآمالهم. تميزت أغانيه بالبساطة والعفوية، حيث كان يلحن كلماته ويصيغ ألحانه مع العازف محمد بن زينة الذي رافقه بعزف على “القصبة” (الناي التقليدي).
صوت الشعب وقضايا الوطن
كانت أغاني عيسى الجرموني أكثر من مجرد فن ترفيهي؛ فقد كانت مرآة تعكس هموم المجتمع الريفي في ظل الاستعمار الفرنسي. تغنى الجرموني بقضايا الشعب، وأشهر أغانيه تتناول البطولات الشعبية مثل أغنية “بن زلماط” التي تناول فيها قصة أحد أبطال المقاومة الشعبية في منطقة الأوراس. كما تطرقت أغانيه إلى ثورة الأوراس في عام 1916، حيث كانت صوته بمثابة صرخة مدوية تطالب بالحرية والكرامة.
من بين أشهر أغانيه التي ساهمت في بناء شهرته الواسعة، “الفوشي نو مسمار” و”واش طلعوا في العقبة”. كانت هذه الأعمال تحكي قصص المجتمع الجزائري في ظل القهر والظلم الاستعماري، وتعبر عن آمالهم في التحرر.
نجاحات عالمية ونهاية حزينة
بدأت شهرة عيسى الجرموني تتسع بعد أول تسجيلاته في عام 1930، وحقق أول نجاحاته الكبرى في عام 1933. تلاه إصدار سلسلة من عشرة أسطوانات في عام 1938، ساهمت في ترسيخ مكانته كأحد أبرز الفنانين الجزائريين في ذلك الوقت. وعلى الرغم من شهرته الكبيرة، ظل الجرموني مرتبطاً بجذوره الريفية البسيطة، ولم يتخلّ عن رسالته الفنية التي كانت تسعى للدفاع عن قيم مجتمعه الذي عانى من ويلات الاستعمار.
للأسف، لم تطل حياة الجرموني، إذ أصيب بمرض التيفوس خلال موجة الاضطرابات التي شهدتها الجزائر في عام 1945. نُقل إلى مستشفى في قسنطينة حيث توفي في 16 ديسمبر 1946. تم دفنه في مدينة عين البيضاء، حيث قضى معظم مسيرته الفنية. يوم وفاته، أغلق تجار المدينة محالهم حداداً عليه، كما قام رفيقه الموسيقي، محمد بن زينة، بتحطيم آلته الموسيقية وأقسم ألا يعزف مرة أخرى تقديراً لعلاقته الوثيقة بعيسى وتأثراً بفقدانه.
إرث خالد ومهرجان دائم
ترك عيسى الجرموني خلفه إرثًا موسيقيًا وثقافيًا كبيرًا، لكنه كان مهدداً بالضياع لسنوات طويلة حتى تم إحياء العديد من أعماله في أوائل التسعينيات من خلال إصدار مجموعة من الأشرطة الصوتية التي جمعت أفضل ما قدمه من أغاني. ومنذ ذلك الحين، أصبحت موسيقاه جزءًا من الذاكرة الجماعية للجزائريين.
لتكريم هذه الأيقونة الفنية، أطلقت مدينة أم البواقي مهرجان “عيسى الجرموني”، الذي يُعقد سنوياً ويجمع بين الفن والتراث، ويشمل عروضًا موسيقية، ومعارض ثقافية، وورشات عمل في الشعر والقصة. يهدف هذا المهرجان إلى الحفاظ على تراث الجرموني الفني والاحتفاء بمسيرته التي جمعت بين الفن والنضال.
الخاتمة
رغم مرور عقود على وفاته، لا يزال عيسى الجرموني حيًا في وجدان الشعب الجزائري. صوته الذي كان يمثل صدى لآلام ومعاناة أجيال، يستمر في إلهام الأجيال الجديدة من الفنانين والمثقفين. إن إرثه الفني والثقافي، الذي يعبر عن أصالة الشعب الجزائري وقيمه النبيلة، سيظل خالداً في تاريخ الموسيقى الجزائرية والعربية.