الفكر

التجريب في النصّ الدرامي

فتتجلى براعة المؤلف بدرجة عمق استدراجه لمنطوق الحياة،وصياغة منطوق درامي قد يقترب أو يبتعد عن الأصل،لكنه يحمل في ذات الوقت صوت المؤلف الذي يتغذى من رؤية بمنظور جمالي،وسعة إطلاع،ودقة في طرح الآراء،حتى الآراء المناوئة له،بوصف العالم الدرامي الذي يشكله في النص شكلاً من اشكال البرلمانية.

يكون الأبطال فيه يتمتعون بحقوقهم الكاملة،وإن اختلفوا مع صوت المؤلف.

إن خاصية المؤلف الدرامي أنه ينشئ عالماً درامياً نابعاً من خلاصة تجارب انسانية في الحياة ،ويعيد خلقها ضمن نسيج تصوغه براعة المؤلف وتفرده،والغاية التي يقصدها هي الكشف عن قوانين الحياة في حاضنة العالم المتخيل للمؤلف.

إلا انه قادر على جعل هذا العالم الافتراضي المزدحم ،والتأريخ الدرامي العالمي حافلاً بالعديد من النصوص الدرامية التي رسخت أمام عاديات الزمن،وسر بقائها ووجودها أنها عبرت عن صميم المشكلات التي تؤرق وجوده على الرغم من كونها عالجت في حينها مشكلات الحياة التي أنبثقت منها تأريخاً.

فالمؤلف يعيش الحياة بكل تفصيلاتها وتداخلاتها ومتاهاتها يلتقط ويشكل ذاكرة حياة ويحول كل المدركات الحسية وغير الحسية الى مدركات قابلة للإدراك جمالياً.

 والتساؤل يطرح من جديد.كيف يكون التجريب في النص الدرامي ووضع المؤلف هو لم يتغير؟ وللإجابة نقول:إن التجريب ليس بعبث طفولي أو نزق يعبر عن رغبات سرعان ما تنطفئ ويهفت لهبها،وذلك ان التجريب بحث متواصل ومتصل،والتقاط نهم للحياة وللحاجات التي تفرضها الظروف المتنوعة،وللمنطق الفلسفي الذي يتبناه المؤلف،وهذا يعني ان الفلسفة جزء لا يتجزأ ليس من المؤلف فحسب.

إنما من مفهوم التجريب ذاته بوصفه كسراً مدركاً والأتيان بمدرك جديد.

 لهذا فان الجوهري ليس ما يدرك،إنما الصيغة التي سيتم في ضوئها التأسيس عليها.

لهذا فان التجريب لا ينطلق من أرض مجدبة أو أرض بكر.ذلك ان مفهوم التجريب:هو عملية خرق معرفي في المنطلق الفلسفي للمؤلف.لهذا،فقد لا تأتي تجربة المؤلف بجديد وهو يقدم عالماً درامياً دامياً أو محطماً أو عابثاً،لذلك تضمحل صورة المؤلف،ويخفت صوته، وينتهي أمره.والجدير بالإشارة القول:إن التجريب في النص قد لا يكون كلياً في النص بمعنى قد يكون الاشتغال على بعض عناصر النص ألا أن التجريبي المدهش في حينه الذي استطاع أن يضيف الممثل الثاني في النص إلا وهو (اسخيلوس) اذ كان قبله الممثل الإغريقي(شيبس) الذي كان يسرد حكاية النص على لسانه،من دون ممثل اخر معه،إلا أن (اسخيلوس) من خلال عمق تفكيره ومنظوره،والمناخ الفلسفي على لسانه،استطاع ،إيجاد الدراما التي استطاع من خلال فرض الممثل الثاني،تعزيز الصراع وتقويته وترصينه.

وهو بذلك ،حول السرد إلى الفعل والدراما فن الفعل.

 إن ذلك حقق للمؤلف مساحة في التعبير واسعة بالمقارنة بما قبله من حكايات تروى على لسان بطل واحد،وجاء بعده(سوفوكليس) الذي أضاف الممثل الثالث،والأخير عمق المواقف الدرامية،وجعلها سلسلة متماسكة،وخير شاهد نسوقه مسرحيته الخالدة(اوديبوس ملكا).وقد يرى البعض ان ذلك لا يعني الكثير بعد أن قطع المسرح شوطاً بعيداً،إلا أن نمو الدراما وتطورها أنطلق من خلال تلك المتغيرات التي شكلت فعلاً قوياُ مؤثراً،بحيث صارت الدراما متقدمة، وحث فيلسوف وناقد(ارسطو) لوضع نظرية الأدب وخصص للدراما ركناً كاشفاً عن دلالاته وعناصره وخصائصه بالمقارنة مع الأنواع الأخرى.

 إن التجريب على النص الدرامي الإغريقي، اسهم في إرساء قواعد وأسس تتعلق في كيفية إدراك وتذوق النص ذاته، لذا فان التجريب ها هنا يُعد خلقاً أبداعياً لمحركات الحياة ومستجداتها فتح نوافذ الفكر الإنساني لمساحات أكثر انفتاحاً وعمقا.

وتجلى ذلك في نصوص المؤلف الإغريقي (يروبيدس) الذي لم يضف للنص شيئاً.وانما شكلت أضافته في كيفية معالجة الموضوعات،وهذا يعني ان التجريب الذي سبقه على يدي الكاتبين (اسخيلوس وسوفكلس) أسهم بمساحة جديدة تتعلق بصيغة طرح الشخصيات العادية والبسيطة لترقى الى مرتبة الابطال.وهذا بحد ذاته توجه يُعَدُّ جديداً في النص الإغريقي الذي عكف على تناول شخصيات مرموقة وقوية.

ويلاحظ،أن سخونة الموضوعات والأحداث،جاءت تلبية للحياة الاجتماعية العاجة بالأفكار والمبارزات الكلامية والمقولات الفلسفية المتحركة في اكثر من اتجاه.لهذا فان الإضافة والتطور في بنية النص يعنيان الكشف عن ادراك جديد، أي هنالك عمليات هدم وبناء لا بوصفها تجربة خارجة عن نطاق الوعي،بل العكس انها تتمركز في صميم الحياة وتزلزل اسسها الأيدولوجية.

 أما النصوص الدرامية في عصر النهضة فقد إتجهت صوب البطل الدرامي،والمؤلف صار ينشر بؤر النص في تعددية الشخوص،أو في الكشف المستمر لشخصية من الشخصيات ،بحيث نقرأ تلك الخلخلة في روح البطل،وتلك المساحات شبه الضائعة،استماتة البطل وهو يبحث عن تحقيق ذاته ومصيره وأفكاره،واصطدامه المستمر مع العقبات والحواجز،التي ينهض بها البطل المناوئ له. ان النص هاهنا يعد حد من اشكال امتصاص روح العصر المتسمة بالتوثب والفاقدة لأسسها العقائدية والنفسية لإنسان العصر.

فقد ايمانه بالماضي،مثلما فقد طمأنينته الواضحة للمستقبل الذي بدا لا يؤتمن،لهذا جاءت نصوص المؤلف(وليم شكسبير)وعلى وجه التحديد (هاملت،عطيل،الملك لير).التعبير الأكثر نضجاً لواقع يتحرك ولإنسان ذلك الواقع الذي لم يعد واضحاً ولا واثقاً بما يراه ويحيا في ظله وخلق مجموعة بؤر تتحرك وتحرك البطل فأوفيليا تشكل بؤرة،والملكة،والملك،ولايرتس.. .الخ

لقد توزعت البؤر وانتشرت في سياق الحدث الدرامي،تشكلت التماعات الوجود البشري،الذي أختزل وأعيد إنتاجه جمالياً،بحيث نجد التنوع الغزير والتفرد واستماتتهم من أجل تحقيق أهدافهم،إلا انهم يصدون ويتحطمون.

إن هذه القدرة الدرامية الهائلة والمصاغة على زعزعة العالم وهزه من خلال خلق مساحات جديدة في بنية النص الدرامي تعد شكلاً فنياً تجريبياً متقدماً على بنية النص الإغريقي،فضلاً على شكل النص الذي صار بخمسة فصول.

 ويلاحظ أيضاً،إن التجريب في كتابة النص لم يتوقف،فسرعان ما نشطت حروب المؤلفين،ففي النصوص التعبيرية،ظهر البطل المتفرد الذي ينعكس العلم من خلال رؤيته،ولم يعد العالم هو عالم الواقع والحياة اليومية المدركة،وإنما العالم من وجهة نظر البطل الذي بدا مشوشاً ومضبباً وأحياناً مهشماً،لهذا فان مؤلفي النص التعبيري عكفوا على أظهار المساحات النفسية والهزات العاطفية والخلجات التي تكتنف البطل الذي لم يعد يُرى غيره،والشخوص المحيطين به مجرد أرقام أو صفات أي دخلت النمذجة وأسباغ الصفة على ما يقع خارج ذات البطل المركزي،وهو انعكاس واضح للحرب،وما خلقته من دمار وتحطيم وتشويه.

إن المؤلف ادرك الحياة وما تخلفه،بالتالي عبر عن ذلك من خلال،إزاحة الأسس والقواعد التقليدية للنص الدرامي،وسلط الضوء على كيفية مغايرة في خلق النسيج الدرامي ذاته،ولهذا انجرف العالم تحت عباءة البطل المركزي،بعد أن تعدت ذات البطل مساحة أوسع ،وأضحت الذات البشرية الصارخة بوجه ما أصاب الحياة من دمار وتحطيم وخراب. وربما كانت مسرحية (في انتظار كودوت لمؤلفها صاموئيل بيكت).

أكثر النصوص الدرامية قلباً للقواعد والأسس،فقد تقهقرالحوارواضحى، مفككاً، وتهشمت قاعدة حبكة النص، فلم تعد الحبكة المنضدة ذات البداية والوسط والنهاية،هي ما يحفل به نص بيكت،وفضلاً عن ذلك،صار التكرار،جزءً لا يتجزأ من تكوين النص الجمالي.

وعليه فان النص حطم القاعدة الارسطية واجتهد بتكوين قاعدة جديدة،بعد أن ادرك المؤلف طبيعة الخراب والوضع المزري لبني البشر،وفقدانهم لقدرة التواصل وانتظارهم للقادم الذي لا يأتي،الا أن البشرية تضع عصارة عذابها على مشجب الانتظار وكان المؤلف أراد السخرية من تردي الوضع البشري في دماره وتحطمه وضياعه وخوفه وقلقه،من أن لا شيء يحدث ومع ذلك،فان البشر يحيون حياتهم وكأنه تعبير عن آلية في الوجود الذي استلبت منه الروح،ومع ذلك يبقى عسى ان يتغير العالم. ان تفكك النص وتكراره،وفقدانه للحدث الظاهري لا يلغي بنيته الرصينة والعميقة ، فقد أخفى المؤلف حديثه مثلما أخفيت الحقيقة عن بني البشر،في جدوى بقائهم ومعناه،وبقى الإحساس بالعدمية انعكاساً لحالة التصدع التي أصابت الإنسان في حضارة أسسها.

إلا أنها نهشته حَدَّ العظم. ان النص الدرامي زلزل الصيغ التي صارت مألوفة في كتابة النصوص، وأوجد صيغ أخرى،غير مألوفة أو سائدة إلا انه أسس لها،وفق عقل استراتيجي، ووفق منظور فلسفي استطاع من خلاله تكثيف دلالات الحياة والوجود في نص بدا متخلخلاً فجيء.

إلا أن حقيقته يتسم بالرص والعمق والقدرة والحنكة على مواجهة الحياة.

إن التجريب في النص الدرامي ما هو إلا كشف عن الحياة،وخرق للسائد والمألوف وإماطة اللثام عن الجديد والمعبر عما يحتاج الإنسان من هول ودمار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق