الأدبالفكر

عیناها لبزرگ علوی: نظرة امرأة تتحدى السلطة والرقابة

جمال قتالة

رواية عیناها لبزرگ علوی، التي تُرجمت حديثًا إلى الفرنسية على يد هدی وکیلی، تعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية الإيرانية في القرن العشرين. أكثر من مجرد قصة حب أو لغز فني، تحمل الرواية في طياتها تأملًا عميقًا في الذاكرة والحرية ووضعية المرأة في مجتمع يخضع للمراقبة السياسية والقمع الاجتماعي.

نُشرت الرواية عام 1952، في إيران التي شهدت رقابة صارمة على الفكر والفن، ويعكس هذا السياق تاريخيًا تجربة بزرگ علوی الشخصية، الذي عرف السجن والمنفى بسبب مواقفه التقدمية وانتمائه للحركة الفكرية الإيرانية. في عیناها، يحوّل الفنان لوحة فنية إلى رمز للمقاومة والعدالة، حيث يصبح “النظَر” المرسوم على قماش اللوحة ذاكرة حية واتهامًا صامتًا ضد الظلم والسلطة المطلقة.

تبدأ القصة مع المدير، المعجب بأعمال الرسام مكان، الذي يسعى إلى فهم سبب وفاة الرسام الغامضة في المنفى. مقتنعًا بأن سر اختفائه يكمن في لوحته الأشهر عیناها، ينطلق في رحلة لفهم الحكاية الكامنة وراء اللوحة. تمر سنوات وهو يراقب الزوار والمشاهدين، دون أن يجد الإجابة، حتى تظهر أخيرًا فرنگيس، المرأة المصوّرة في اللوحة، لتكشف سر النظرة التي أثارت فضول الجميع.

فرنگيس ليست مجرد شخصية أدبية؛ إنها رمز المرأة الحرة في مواجهة القيود الاجتماعية والأبوية. ولدت في أسرة أرستقراطية وتربّت على القيم التقدمية، وتمتلك تعليمًا وثقافة تجعلانها مستقلة وقوية، لكنها تظل أسيرة التوقعات الاجتماعية ونظرات الرجال التي تحكم عليها قبل أن تُفهم حقيقتها. في اللوحة، يتأرجح نظرها بين الحب والحنان، وبين التحدي والاتهام، ليجعل بزرگ علوی من هذا التناقض صورة مجسدة للنظرة المجتمعية إلى النساء: دائمًا محل حكم، ونادرًا ما يُفهمن أو يُستمع إليهن.

الرواية، من خلال قصة فرنگيس، تقدم نقدًا سياسيًا صريحًا، فهي تكشف عن خوف السلطة من الفن وعن استمرار البنى الأبوية التي تحد من حرية المرأة والمجتمع. كما تطرح أسئلة فلسفية حول الذاكرة والمسؤولية الإنسانية: ماذا يبقى من فنان حين تتحول أعماله إلى وسيلة اتهام؟ وكيف يمكن رواية الحقيقة عندما تُسلب الكلمة؟

هنا يتحول عیناها إلى أكثر من رواية؛ إنها تأمل سياسي وإنساني، حيث الفن يصبح ساحة صراع بين الحرية والرقابة، بين الحقيقة والمجتمع الذي يخشى مواجهة ذاته.

اللوحة ليست مجرد رسم، بل مرآة لعالم مضطرب، وعين فرنگيس ليست مجرد رسم على قماش، بل صوت المرأة الذي يحاول أن يُسمع وسط صمت السلطة والمجتمع.

الترجمة الحديثة لهدی وکیلی تضيف بعدًا جديدًا للرواية، إذ تنقلها إلى لغة أخرى مع الحفاظ على عمقها وجماليتها. ولدت هدی وکیلی عام 1981 في أصفهان، ونشأت في أجواء الحرب بين إيران والعراق، فوجدت في الأدب الفرنسي ملاذًا للتعلم والفكر. من خلال ترجمتها، تُعيد هدی وکیلی تأكيد رسالة بزرگ علوی: الفن واللغة والجمال يمكن أن يكونوا جسورًا بين الثقافات، وسيلة لفهم الآخر والتواصل عبر التاريخ والجغرافيا.

قراءة عیناها اليوم تعيد صدى نضالات المرأة الإيرانية المعاصرة، في مجتمع ما زال يراقب نظرات النساء ويقيد حريتهن. الرواية تستعيد قوتها عبر الزمن، فتصبح عملاً يتحدى الصمت، ويذكر القارئ بأهمية الفن كمرآة للمجتمع، وبأهمية الذاكرة والحرية في مواجهة القمع.

في النهاية، عیناها ليست مجرد لوحة أو قصة، بل تجربة إنسانية وفكرية، حيث تتلاقى السياسة والفن والتاريخ، لتصبح الرواية دعوة دائمة للتأمل في قوة المرأة، وحرية الفن، ومسؤولية النظر والذاكرة في مجتمعاتنا المعاصرة.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق