الصحة الإنجابية للنساء الفلاحات … حقّ مُجهَض

تم إنشاء صورة المقال بإعتماد الذكاء الإصطناعي
يسرى رياحي
“الفلاحة خسرتني في أعز ما نملك في حياتي… حرمتني من كلمة يا أمي ويا بابا.. ثلاثة أطفال ماتوا في بطني أثناء الحمل من قوة الضغط ولم أعد قادرة على الإنجاب”
بهذه الكلمات الخانقة روت ‘حفيزة’ عاملة فلاحية بمنطقة ‘بني خلاد’ من ولاية نابل قصتها ،قصة امرأة دفعت ثمن جهلها بحقوقها الصحية وثمن شقاء يوميّ لم يترك لجسدها فرصة كي يلتقط أنفاسه أو يحمي أحلامها الصغيرة.
لم تكن حفيزة تعرف أنّ المتابعة الطبية للحمل ليست رفاهية بل حق. لم تكن تُدرك أن الإجهاد المفرط من ساعات العمل الطويلة، حمل الصناديق الثقيلة، وتعرضها للمواد الكيميائية كلّها كانت تسحب حياة أطفالها واحدا تلو الآخر دون أن تنتبه، خسرت حفيزة أطفالها الثلاث في رحمها قبل أن يولدوا.
هذه القصّة ليست فردية بل مرآة لواقع مئات النساء العاملات في القطاع الفلاحي اللواتي يدفعن ثمن غياب الوعي الصحي، وثمن ظروف عمل منهكة تتجاهل خصوصيتهن الجسدية والإنجابية. قصة حفيزة تكشف جانبا مسكوتا عنه ”الصحة الجنسية والإنجابية للنساء في تونس وخاصة العاملات الفلاحيات ما تزال هشّة ومحاطة بصمت ثقافي ومؤسساتي”.
الصحة الجنسية والإنجابية في تونس بين التشريعات والتطبيق
رغم تقدّم تونس في مجال التشريعات المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية وتوفر مراكز الصحة الأساسية في أغلب المعتمديات إلى جانب مجانية المتابعة الطبية وبرامج تنظيم الأسرة، إلا أن هذه المكاسب لا تنعكس دائما على واقع النساء، خصوصا في المناطق الريفية. فالبنية الصحية متوفرة نظريا لكن الانتفاع بها يظل محدودا بسبب بعدها الجغرافي أحيانا أو ضعف التواصل حول الخدمات المقدمة، ما يجعل الوعي الصحي أقل انتشارا بين الفئات الأكثر هشاشة مثل العاملات الفلاحيات. ورغم الجهود الرسمية، ما تزال المعرفة المتعلقة بالجسد، بالحمل، وبحقوق المرأة الصحية محكومة بثقافة الصمت والخجل، ما يجعل الصحة الإنجابية ملفا متقدما على مستوى النصوص ومتعثّرا على مستوى الوصول إليه فعليا.
في المقابل، تواجه النساء الريفيات سلسلة من الصعوبات المعقّدة: ضعف التثقيف الجنسي والإنجابي داخل الأسرة والمدرسة، الضغط الاجتماعي الذي يمنعهن من طرح الأسئلة أو طلب المساعدة، وغياب مراقبة فعلية لتطبيق القوانين التي يفترض أن تحميهن داخل أماكن العمل الفلاحية. وبين الجهل الصحي، والإرهاق الجسدي وانعدام المتابعة، تجد كثيرات أنفسهن في وضع شبيه بما عاشته حفيزة ”حملٌ بلا مراقبة ومشقة يومية لا تسمح بتمييز أعراض الخطر وفقدان أطفال كان يمكن إنقاذهم لو وصلت إليهن المعلومة والرعاية في الوقت المناسب”.
كثيرات لا يدركن أبسط حقوقهن: حقهن في المتابعة المنتظمة، والحصول على الراحة أثناء الحمل، والحماية من المواد الكيميائية، والتبليغ عن ظروف العمل الخطرة. وهكذا يتحوّل الجهل الصحي وغياب الدولة إلى ثمن تدفعه النساء من أجسادهن وأحلامهن.
في تصريح لنا، يقول القاضي المستشار بمحكمة الاستئناف عمر الوسلاتي “قانونيا يضمن الدستور التونسي للناس الحقّ في الصحة” مشيرا أنّ الحق في الصحة مجاني مثل الحقّ في التعليم وهذا يقتضي أن تتوفر مستشفيات ومراكز صحية متعددة في الجهات وفي المناطق الداخلية في حين أنّ أغلبها يرتكز في العاصمة.
وأضاف الوسلاتي أنّ النساء الفلاحات أغلبهن لا دراية لهن بحقوقهن الجنسية والإنجابية وبالنسبة لهن هو موضوع لا يمكن الخوض فيه نظرا للخلفية الثقافية التي تنعدم فيها المعرفة بهذه الحقوق وأكّد قائلا “المشكل أنّ المناطق الداخلية والأرياف يسود فيها المجتمع الأبوي الذكوري ولا يُمكن للمرأة أن تخوض في حقوقها الجنسية والإنجابية مع عائلتها وحتى إن ذهبت إلى المراكز الصحية تستحي أن تخوض في المسائل الحساسة مع طبيب رجل”.
ودعا القاضي عمر الوسلاتي وزارة الصحة التونسية إلى تكثيف حملات التوعية في المناطق الداخلية لتمكين النساء والفتيات من حقوقهن الجنسية والإنجابية مع توفير الدعم وتركيز قافلات ميدانية صحية للكشف والتقصي عن الأمراض المنقولة جنسيا ودعوة النساء اللاتي يعشن في وضعيات هشة إلى ضرورة التوجه للمراكز الصحية للكشف والتقصي عن حالتهن الصحية الجنسية والإنجابية.
من داخل القطاع الصحي: المشكل اقتصادي قبل أن يكون ثقافي
“المرأة الفلاحة التي لا تعمل في القطاع الفلاحي لن تجد من يُنفق عليها وعلى أبنائها خاصة إذا كان زوجها معطل عن العمل .. المشاكل تتلخص في الإمكانيات المادية وليس في نقص الوعي بالحقوق الجنسية والإنجابية” بهذه الكلمات عبّرت السيّدة سهام حجار، قابلة رئيس أوّل للصحة العمومية، في تصريحها لنا معتبرة أنّ النساء الفلاحات والقاطنات في الأرياف خاصة هن ضحايا الواقع الاقتصادي الهشّ ليُصبح الجانب المادي في حياتهن أهم بكثير من صحتهن الجنسية والإنجابية.
وأضافت أنّ وزارة الصحة عملت منذ سنوات على تقريب الخدمات الصحية للمواطنين في الأرياف وكذلك بالنسبة للنساء هناك مراكز صحية للتقصي عن أي مرض يُمكن أن يصيب المرأة سوى كان منقول جنسيا أو متعلق بصحتها الجنسية والإنجابية.
ودعت السيدة حجار كافة النساء والفتيات إلى ضرورة الانتباه لصحتهن وأكّدت على أهمية التوجه للمراكز الصحية للتقصي عن أيّ مرض يُمكن أن يُصيبها في علاقة بالصحة الجنسية والإنجابية. وأضافت أنّ تكريس مفهوم الصحة الجنسية والإنجابية هي عملية مشتركة بين كل المتدخلين من وزارة الصحة ووزارة التربية التي يجب أن تثري البرامج التربوية في التعليم الابتدائي والثانوي بدروس خاصة بمفهوم الصحة الجنسية والإنجابية، أيضا وزارة التكوين المهني والتشغيل التي يجب أن تراعي ظروف النساء العاملات في كل الميادين أثناء الحمل ومنحهن إجازة مع تمكينهن من حقوقهن كاملة.
لإنهاء هذا الواقع الهش، يصبح التعامل مع الصحة الجنسية والإنجابية مسؤولية مشتركة بين المرأة والدولة والمجتمع. المطلوب ليس فقط سنّ القوانين، بل تفعيلها عبر تعزيز حملات التوعية الميدانية داخل المناطق الريفية، وتدريب المشغّلين الفلاحيين على احترام حقوق النساء الحوامل، ومراقبة صارمة لظروف العمل داخل الضيعات. كما يظل إدماج التربية الجنسية والصحية في المدارس خطوة أساسية لتأسيس جيل واعٍ بحقوقه. وإلى جانب ذلك، يبرز توفير نقل آمن للعاملات كضرورة لحمايتهن من المخاطر اليومية.
الصحة الجنسية والإنجابية ليست رفاهية بل ركيزة أساسية لضمان حياة أكثر عدلا وأمانا للنساء.