الأحزاب

الحركة الوطنية في الثلاثينات وتأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد

كما تميزت هذه الفترة بانعكاسات أزمة الثلاثينات الاقتصادية وعمق تأثيرها عن المجتمع التونسي الذي شهد تحولات هامة تزامنت مع تفاقم تحديات للسياسة الإستعمارية الفرنسية، وطالت تأثيراتها كلّ فئات المجتمع التونسي الذي لم يلق من سلط الحماية المساعدات التي حظيت بها الجالية الفرنسية، فقد انشغلت سلط الحماية بمساعدة المعمرين الذي كسدت أعمالهم وتركت المجتمع الأهلي يواجه مصيره بمفرده أماّ الأوضاع السياسية فقد تميزت بالركود.

 إلى جانب ذلك كانت مرحلة تحدي الهوية الوطنية فلم تتوان السلط الفرنسية في ظلّ هذه الأجواء القائمة عن استفزاز وتحدّي المشاعر الدينية والوطنية وذلك بتنظيمها المؤتمر الأفخارستى، وهو تظاهرة دينية مسيحية نظمتها الكنيسة الكاثوليكية في شهر ماي 1930 بقرطاج بمساعدة سلط الحماية.

 وقد تقبل الرأي العام في تونس الحدث كإعتداء على شعوره الديني وكتصعيد في الحملة التبشيرية المسيحية الهادفة إلى تقويض الشخصية الإسلامية للبلاد وزعزعة قوام هويتها الحضارية وفضلا على أنّ المؤتمر قد انعقد على نفقة الميزانية التونسية العمومية، فالحدث شكّل لحظة صراع بين المسيحية التي سعت في نفس المناسبة إلى استحضار صورة قرطاج الرومانية وبين فرنسا التي حاولت تأكيد دورها وسلطتها على الأرض التي مات فوقها الملك لويس التاسع والتي تسعى إلى اقحامها نهائيا في المجال الفرنسي وقد عاين الشعب التونسي النزاع الإيطالي الفرنسي على تأطير المؤتمر بمرارة المهزوم العاجز عن الدفاع عن نفسه.

سعى بورقيبة إلى تحريك سواكن الأذهان وإلى الحفر عن الحقيقة انطلاقا من محددات اقتصادية واجتماعية وبدأت أفكاره تتجلى في كتاباته في أسلوب جديد لعرض القضية الوطنية فالعلّة في نظره أن النخبة مصابة بالخوف والهلع وهي بحاجة لمن يؤطرها فجمع شتات هذه الفئات الشعبية ، وعجّلت هذه القضيّة باستقلال هذه المجموعة بجريدة خاصّة بها فصدرت في غرّة نوفمبر 1932 جريدة العمل الناطقة باللغة الفرنسية، وما ميّزها أنها جمعت جيلا جديدا من المثقفين الوطنيين من ذلك على بوحاجب، محمد بورقيبة، محمود الماطري، البحري قيقة والحبيب بورقيبة، فأغلبهم درس في ، وأول مقال لبورقيبة كان بعنوان “الميزانية التونسية” وأوضح أنها مرآة سياسة الحكومة، وانصرف يحليل دواليب الإدارة والطواف بالبلاد لإجراء الأبحاث الواسعة وجمع استجوابات ومعالجة المشاكل الفلاحية، مع إفادة الفكر العام عن نشاط وفد المجلس الكبير بباريس ثم عن أعمال لجنة “تاردى” فمنذ صدور قانون 20 ديسمبر 1923 الذي يفتح باب الجنسية الفرنسية أمام التونسيين، لم يتبلور موقف شعبي رافض بمثل الحدّة التي ميّزت فترة الثلاثينات حيث انطلقت وقائع القضية بمدينة بنزرت يوم 31 ديسمبر 1932 عندما رفض سكانها المسلمون دفن يحي شعبان رئيس رابطة المسلمين الفرنسيين، في المقبرة الإسلامية وساندهم في ذلك المفتي الشيخ إدريس .

الذي اعتبر المتجنس مرتدا ويحرّم بالتالي دفنه في مقبرة إسلامية، وهكذا استغلّ بورقيبة هذه الظرفية ونظّم حملة صحفية ضدّ تدخّل الحكومة في مسألة كان الواجب أن تبقى ذات طابع ديني بحت، واعتبر أنّ سياسة التجنيس هي أيضا وسيلة التعجيل بانحلال الشعب. ولم يكن أمام سلطات الحماية أمام تجذّر الحركة الوطنية والنهوض الجماهيري وإزاء حدّة لهجة الصحف الوطنية بلسانها العربي الفرنسي إلاّ أنّ أصدرت الأوامر الجائرة يوم 6 ماي 1933 يتيح وضع الوطنيين تحت الرقابة الإدارية وفي نفس الإطار أصدرت لضرب الصحافة الناطقة بالعربية أمر 27 أفريل 1933.

 وبالتالي عطلت يوم 31 ماي عديد الجرائد من بينها العمل “التونسي” وهذه الوضعية مهّدت لتطوّر الحركة السياسية ومزيد توحّدها، وذلك بانعقاد مؤتمر الحزب الحرّ الدستوري التونسي يوم 12 و 13 ماي 1933 بمقره الكائن بنهج الجبل بتونس العاصمة وقد عكست مداولته وقراراته الروح الجديدة التي دبّت في الحركة الوطنية وقد تجلى ذلك في هيكلة الحزب وفي برنامجه.

 ففي مستوى هيكلة الحزب أفرز المؤتمر قيادة جديدة إذ ضمت اللجنة التنفيذية علاوة على رموز الجيل المؤسس للحزب أحمد الصاّفي، صالح فرحات، ومحي الدين القليبي، جيلا جديدا من الشباب الوطني المتحمس من ذلك جماعة العمل التونسي محمود الماطري ومحمد بورقيبة، الطاهر صفر، البحري قيقة، والحبيب بورقيبة.

 أمّا على مستوى البرنامج السياسي فقد طالب الجماعة بتشريك التونسيين في إدارة شؤون البلاد والحصول على دستور يصون الشخصية التونسية وسيادة الشعب بواسطة برلمان تونسي وحكومة مسؤولة أمام البرلمان والتفريق بين السلط التشريعية والتنفيذية والعدلية وإجبارية التعليم، وبصفة عامة توفير كلّ الوسائل التي من شأنها أن ترفع البلاد من الإنهيار المادي والمعنوي الذي تتخبط فيه.

غداة انعقاد مؤتمر نهج الجبل طفت على السطح بوادر التباين فالخلاف بين الطرفين التقليدية والعصرية قد جعل الإنسجام صعبا بين الفريقين، بين الأعضاء القدامى للجنة التنفيذية والأعضاء الشبان من مجموعة العمل التونسي وأحدث بلبلة عند الأقدمين كما أحدث كدرا عند الجدد الذين أضناهم سير الأقدمين الوئيد وارتبط جوهر الخلاف بالأسلوب في النضال.

 فقد كان القدامى في اللجنة التنفيذية يرون ضرورة توخّي سياسة الحذر والتريث، بالمقابل كانت جماعة العمل التونسي ترى ضرورة الاعتماد على القوى الشعبية في العمل السياسي، واقتنع الشق الراديكالي بعدم إمكانية التعايش في صلب قيادة واحدة فغادر الحبيب بورقيبة الحزب وشق من رفاقه وشنوا حملة لتبرير مواقفهم لدى الشعب الدستورية وطالبوا بحسم الخلاف بالدعوة إلى عقد مؤتمر خارق للعادة وانعقد المؤتمر بقصر هلال يوم 2 مارس 1934 وحضرته 49 شعبة دستورية وندّد الشق الراديكالي بخطة اللجنة التنفيذية.

 واعتبرها عاجزة عن تبني مطالب الشعب، ووضح المؤتمرون أسباب الخلاف وفي المقابل تشكلت قيادة جريدة للحزب باسم “الديوان السياسي” وبقى الحزب القديم معتمدا على آليات عمل سياسي يحتوي في حين انتهج الجدد خطّة العمل المباشر المعتمد على القوى الشعبية.

وابتداء من ذلك التاريخ وجد بورقيبة أداة للعمل طبقا القاعدة أساسية وهي الاتصال بجماهير الشعب وإيقاظ وعيها بالاجتماعات والخطب وتنظيم صفوفها داخل الحزب.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق