آراء

رسالة الثورة الجزائرية : دروس وعبر للحاضر والمستقبل 

تعود جذور الثورة الجزائرية وإرهاصاتها إلى الانتفاضات والمقاومات المتعاقبة التي اندلعت منذ قدوم الفرنسيين في جويلية 1830، كمقاومة أحمد باي والأمير عبد القادر الجزائري ولالة فاطمة نسومر  والزعاطشة  والشيخ المقراني والشيخ بوعمامة … وغيرها، أضف الى ذلك الدور البارز والقيادي  للزوايا والطرق الصوفية في المحافظة على مبادئ المجتمع الجزائري وقيمه ، والدفاع عن هويته وانتمائه الحضاري

 لقد اتبعت الحكومة الفرنسية خطة محكمة  للتفرد بالجزائر (1830-1880) وعزلها عن محيطها المغاربي، ففي المرحلة  الأولى نهجت سياسة “فرّق تسد” بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة لقطع كل أواصر الدعم والتضامن مع الجزائر، وبعد القضاء على المقاومات والانتفاضات انتقلت إلى المرحلة الثانية ابتداء من سنة 1880بتأمين وجودها الأبدي بالجزائر  باحتلال كل من تونس و المغرب. والملاحظ أن المقاومات والانتفاضات الجزائرية أخّرت احتلال تونس إلى سنة 1881 و المغرب إلى سنة  1912 .

      لقد كانت الحرب بين الجزائريين والفرنسيين كرّا وفرّا، وانطلاقا من التقييم المعمّق لمرحلة الثورات الشعبية، دخلت المواجهة الجزائرية في المحطة الثانية وهي مرحلة  لملمة الصفوف وإعداد استراتيجية لمواجهة مشروع الاحتلال الفرنسي بنشر الوعي والتعليم والتثقيف وإرسال التلامذة والطلبة الجزائريين إلى كل من مدارس الزوايا والطرق الصوفية الموجودة بالجزائر و تونس والمغرب و إلى جامع الزيتونة المعمور (انتسب أغلب الطلبة   إلى جامع الزيتونة ابتداء من سنة 1876 ) وجامع القرويين بفاس وجامع الأزهر بمصر .

       وبدأت مرحلة المقاومة السياسية والثقافية بعد الحرب العالمية الأولى برجوع الطلبة من فرنسا وتونس والمغرب ومصر ، فتأسّست المدارس الخاصة والجمعيات والأحزاب والجرائد، ونشط أئمة المساجد متخذين من الجوامع والمساجد مركزا ومنطلقا، ولعب الشيخ عبد الحميد ابن باديس (رحمة الله عليه)  وبعد تخرجه من الزيتونة وحصوله على شهادة  العالمية  سنة 1911دورا محوريا بمؤازرة العلماء الجزائريين .

       وهذا الحراك والنشاط الحزبي والجمعوي بالجزائر تطور ليصبح مغاربيا، وقد ساهمت الجالية المغاربية في فرنسا، وبالخصوص الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الدارسين في فرنسا، في تشكيل نجم شمال إفريقيا سنة 1927، لينتقل الحراك المغاربي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلى المشرق العربي بمصر والعراق وسوريا، وتزداد عرى التنسيق بين الحركات الوطنية الجزائرية التونسية والمغربية .

       وباندلاع الثورة التونسية سنة 1952 التي طالبت بجلاء الفرنسيين من تونس، دخلت الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة الإعداد للثورة مستفيدة في ذلك من دروس الانتفاضات والثورات السابقة، وذلك بجعل الثورة شاملة لكامل التراب الجزائري ثم نقلها إلى كل من تونس والمغرب أي  مغربتها، وهنا تظهر عبقرية القيادة الجزائرية. لكن تفطن الحكومة الفرنسية لهذا المخطط الوطني، قادها الى انتهاج سياسة استباقية من خلال وضع خطة و استراتيجية تمثلت في الدخول في مفاوضات مع التونسيين والمغاربة لعزل الثورة الجزائرية عن محيطها والتفرد بها، ومنحت لتونس الاستقلال الذاتي في جوان 1955 .

وأمام قوة الثورة الجزائرية وتوحد الثوار في كل من تونس والمغرب والجزائر دخلت في مفاوضات جديدة اعترفت بموجبها باستقلال كل من تونس والمغرب في مارس 1956. 

     هذه الخطوة لم تكن كافية في ظل وجود الجيوش الفرنسية في كل من المغرب وتونس وعربدة  الجيش الفرنسي المتمركز بالجزائروتنطعه ، وتيقنت حكومتا تونس والمغرب بأنه – لا معنى للاستقلال –دون الجزائر، ودخلت في مفاوضات جديدة مع الفرنسيين اتفقت بموجبهاعلى تشكيل كنفيدرالية شمال إفريقيا أو اتحاد بين تونس والجزائر والمغرب، حيث تم الاتفاق على عقد ندوة لإعلان هذا المشروع في أكتوبر 1956 بتونس بمشاركة كل من الحكومات التونسية والمغربية والفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولكن هذا المشروع أجهض وأفشل من قبل الجيش الفرنسي والمعمرين على إثر حادثة اختطاف قادة الثورة الجزائرية الخمسة في 22أكتوبر 1956.

      في الحقيقة، يمثل تاريخ أكتوبر 1956 مرحلة مهمة ومحطة مناسبة لمغربة الثورة الجزائرية وشحنها بهذا البعد المغاربي ، فقد تم الاتفاق على دعم الثورة الجزائرية على كافة المستويات وتسخير الاستقلال التونسي والمغربي لخدمتها،  وأصبحت بذلك كل من تونس والمغرب طرفا في الحرب.

وأمام تزايد نجاحات الثورة الجزائرية ارتكبت الحكومة  الفرنسية جملة من الحماقات لعل أبرزها قنبلة قرية ساقية سيدي يوسف في فيفري 1958، وقد استغلت الحكومة التونسية  هذه الحادثة لتدويل القضية الجزائرية، مستندة في ذلك إلى أن الاحتلال الفرنسي والثورة الجزائرية أصبحتا تهددان السلم العالمي.

 ومع دخول الدولتين العظميين أمريكا وبريطانيا ونفوذهما وانعقاد مؤتمر طنجة في افريل 1958، ساهمت كل تلك العوامل في ميلاد  الحكومة الجزائرية المؤقتة في سبتمبر 1958 التي اتخذت من تونس مقرا لها. وبذلك أخذت القضية الجزائرية دفعة أخرى عبر المزاوجة بين السياسي والعسكري وكسب الرأي العام الدولي والغربي عن طريق الإعلام،  ليتم طرح مسألة حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في أعلى المنابر الدولية، وتُجبر فرنسا على الدخول في مفاوضات أعقبها  الاعتراف باستقلال الجزائر في مارس 1962.

        لقد غيرت ملحمة الثورة الجزائرية، بحق، الخريطة الجيو – سياسية بالمنطقة المغاربية والإفريقية باسترجاع الجزائر لسيادتها ، وتثبيت كل من الاستقلال التونسي والمغربي وهزم الامبراطورية الاستيطانية الفرنسية في كامل إفريقيا و نالت دول افريقية استقلالها تباعا، الى أن أصبحت الثورة الجزائرية أنموذجا يحتذى به في الكفاح ضد كل أشكال الظلم والغطرسة واستعباد الشعوب ، ودليل ذلك تنامي حركات التحرر في العالم بأسره .

      وبعد الاستقلال، انطلقت مرحلة بناء وتشييد الدولة الوطنية أو القطرية والتي لم تكن سهلة أبدا بسبب العراقيل والصعوبات و الألغام والقنابل الموقوتة التي زرعها الاستعمار الفرنسيو تركها ، ومن بينها مسألة الحدود، مما أثر في مشروع وحدة المغرب الكبير الذي ناضلت من أجله الحركات التحريرية والوطنية الحزبية المغاربية ودعت إلى  تجسيده على الأرض الواقع بعد طرد الفرنسيين. وبالرغم من المصالحة التاريخية الأولى في قمتي زرالدة ومراكش و تأسيس اتحاد المغرب العربي في فيفري  1989، بقى الاتحاد المغاربي يدور في حلقة مفرغة بسب المشاكل الحدودية وقضية الصحراء الغربية.

       وباعتبار الدولة الجزائرية وصية ومؤتمنة على رسالة الثورة الجزائرية ومبادئهاوتجسيدها على أرض الواقع، فإنه من المأمول أن تتم مصالحة تاريخية ثانية بين الجزائر والمغرب بإيجاد حل لقضية  الصحراء الغربية في إطار الأقلمة، وبعث دماء جديدة وضخها في مؤسسة الاتحاد وتدوير منصب الأمانة العامة واعتماد مبدأ التصويت والمصالحة بين الإخوة و الأشقاء  الليبيين بوضع حد لسفك الدماء وبناء الدولة الليبية الجديدة يعيش فيها الشعب الليبي الشقيق بأمن وسلام واستقرار  ورفاهية.

        ولكون المغرب الكبير يحتل موقعا استراتيجيا هاما جدا، ويحظى بكثافة سكانية بمائة مليون نسمة أغلبها من فئة الشباب، ويختزن فوق ذلك ثروات اقتصادية هائلة، فإن ما يؤمل إضافة إلى تحقيق الوحدة السياسية، القيام بدمقرطة وإصلاح  برامج التعليمية والمراهنة على الجودة والبحث العلمي  وتطوير الجامعات المغاربية ووضع حد للهجرة عبر قوارب الموت وتشغيل الشباب.

     أملنا كبير في القيادات المغاربية والنخب والمجتمع المدني المغاربي لتشبيك العلاقات وتمتين أواصر المصالحة بين الشقيقين الجزائر والمغرب وفتح الحدود والدعوة إلى الوحدة و إحياء مشروع الاتحاد أو كنفيدرالية  المغرب الكبير بأبعادها  الأمازيغية – والعربية ودولة المواطنة  . ويبقى الأمل وتبقى رسالة الثورة الجزائرية  ودماء الشهداء حية تنير الدرب والسبيل في المغرب الكبير والعزة والخلود لشهداء الجزائر  والمغرب وتونس . 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق