آراء

عذرا أيتها القصرين الشّامخة: فقر وخراب ووجوه بائسة لم تصلحها المساحيق

عندما ترمق عيناك تلك النسوة في القصرين تجتاح حلقك مرارة سفسطة نساء التلفزات عندنا من اللاّتي يجلبوهنّ ثمّ يكذبون عليهنّ ويستغلّونهنّ أبشع استغلال ثمّ يجازون بلفظ ونعت حقيرين “ما يلها إلاّ مرا”، قصرينيات تحرق وجوهنّ نيران “الطّابونة” ودخانها الخانق يتجرّعن سمومه كامل اليوم من أجل خبزة يشتريها عابر سبيل أو قاصد طريق بملاليم ، وجوه يظهر أنّها لا تعرف عطر “الروجي إي نوار” ولا حقائب “الدّولشي قابانا” ولا سجائر “الدانهيل.”

 ولا يعرفن من الحياة في تونس سوى الحرّ والقرّ و”العرى” وليس العري ولا يعرفن غير “الحفاء” والجوع، لا يعرفن من وطنهم غير أكاذيب السياسيين وسفههم وحمقهم ووقاحتهم التي لا يعقبها خجل ولا مروءة.

لمّا دخلت قافلة رحلتنا إلى مواطن العمران بل قل مكامن الدّمار، بدأت تفاصيل المشهد المأساوي تكشف عن نفسها بنفسها أحياء تسكنها آلاف مؤلّفة من البشر طرقها من الأتربة والوحل والحفر التي يهلك فيها الصغير إن سقط فيها وكذلك الشّيخ أو المرأة، شباب في كلّ الأعمار يقابلونك قابعين أمام أبواب المنازل وعلى قارعة الطريق أو جالسين في المقاهي ذات الكراسي الصدئة والمهترئة في مقاه آيلة أكثرها للسقوط على مرتاديها، بيوت ومساكن للبشر لا تطهير فيها وأحيانا بلا ماء ودون كهرباء، حالة مزرية ووضعيّة تدمى لها القلوب.

أمّا عن وضعيّة الوحدات الصحيّة بأنواعها فتحدّث دون أن يأخذك الحرج، فذاك المحزن المخجل، وإيّاك إيّاك أن تمرض وأنت في القصرين وإيّاك وإيّاك أن تقبل أن يمرض أحد من أبنائك أو زوجتك أو يلمّ السّقم بأحد أفراد أسرتك فتلك الطامّة الكبرى والهلاك والموت هو العنوان النهائي لك أيّها العليل في مناطق القصرين، هو الواقع منقول كما هو لم يبدّله تفاؤل المتفائلين، حتّى الذين حاولوا التغيير من أبناء الجهة منذ استقلال البلد عن فرنسا قالوا إنّ رفع حجرة “سيزيف” إلى قمّة الجبل أهون من تحسين حال القصرينيين وتحقيق آمالهم المؤجّلة إلى علم الله..كثيرون قالوا أن تكون القصرين كغيرها من الولايات المحظوظة “منامة عتارس”.

الغريب أنّ القصرين أرض “الرّخام” والكلس والجير الرّفيع، أرض تفاح جنان الخلد، والشّاهد “سبيبة” و”سبيطلة” و”زلفان” من ذاك الذي قال عليه الحكاواتي التونسي الشهير عبد العزيز العروي “يفوح ويردّ الرّوح”، أرض ثبت أنّ فيها بترول في “جدليان”، أرض “الحلفاء” وما أدراك ما الحلفاء، هذه الأرض هي اليوم مجدبة رغم زرعها الأخضر المترامي وفقيرة رغم غناها بثرواتها فأهلها اليوم معدمون معوزون أصابتهم الفاقة والهمّ والغمّ..غريب وعجيب.

يحدث ما يحدث في القصرين والكلّ متغافل حتّى إذا حدث جريمة إرهاب تنطّط المتنطّطون وهرول المهرولون وجيء من جيء بهم إلى هذه التلفزة أو تلك الإذاعة وسيق من سيق من جحافل الخائضين في ما يجهلون، ليسفسطوا ويتكلّموا في كلّ شيء إلاّ في حال القصرينيين المبكي وفي ثروات ولايتهم المنهوبة وغير الموظفة إيجابيّا إلى حين، هؤلاء الذين يأتون على كلّ سفه الخطاب وتفه القول ولا يصدحون في نهاية المطاف بالواقع ولا يقولون كلمة الحقّ في القصرين.

انتهت الرّحلة، وقفل الرّكب راجعا من حيث انطلق، وطوال الطريق كانت ذاكرتي القريبة تراجع مهازل يوم الزيارة “حيطان أقيمت لا يتجاوز أمد بناؤها يومين” “دهن علق بثياب الزّائرين” و”أفرشة وأغطية نظيفة تبرق لمعانا وضعت على أسرّة صدئة قذرة مختومة من عهد علي بن غذاهم”…

ثمّ يتسائل المتسائلون لماذا يجيؤنا الإرهاب من القصرين..سؤال غبيّ جدّا ولكن السياسيين أكثر غباوة وحمقا وكذبا ويحبّون أنفسهم أمّا القصرين فهي أكبر منهم هم يأتون ثم يزولون وهي باقية وشامخة.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق