آراء

قراءة في مشروع محمد آركون والعقل الإسلامي

وبالرغم من أهمية هذه الدراسات إلا أنها في اعتقادنا لم تغط مختلف الورشات التي افتتحها أركون، من ذلك إغفالها للجانب العملي أو الشق الاجتماعي –السياسي لهذا المشروع، وهو شق مهم جدا بالنظر لارتباطه بالواقع المعيش مباشرة، وسعيه للكشف عن مواطن التأزم ومكامن الحرج وكذا مسارات التدخل النقدي لتجاوز هذه الأخلال والأغلال التي تكبل الإنسان العربي المسلم. ويعد مفهوم الأنسنة واحدا من المفاهيم الأساسية المشكلة للشق العملي في المشروع الأركوني، وواحدا من الأطر الاجتماعية الضرورية من أجل الحرية والإبداع والتطور، بما يحيل إليه من تكريس وحماية لحقوق الإنسان، وما يقتضيه ذلك من فتح المجال للحوار والتسامح والاحترام المتبادل للآراء والتعايش والحق في الاختلاف..الخ.

 يؤكد أركون أهمية وضرورة تأسيس الموقف الأنسني الكوني قائلا:” لا ريب أننا في حاجة إلى نزعة إنسانية واسعة تصلح لجميع البشر والبحث عنها ملح وضروري”، والمقصود بالأنسنة لديه هو عملية تثبيت لإنسانية الإنسان ولماهيته، وهي “تتجاوز حدود الأديان والطوائف والقوميات والأعراف لكي تصل إلى الإنسان في كل مكان وإلا فلن تكون هناك نزعة إنسانية حقيقية فهي إذا ما استثنت إنسانا واحدا من نعيمها تكون قد فقدت إنسانيتها”، وهذا المعنى يستوحيه أركون من الأنسنة التي تشكلت في التاريخ الإسلامي بفضل شخصيات متميزة كالجاحظ  ومسكويه وغيرهم، ويحاول تجاوزهم أيضا، فرغم كونه يشيد بأعمال هؤلاء والبعد الأنسني الذي مثلوه، إلا أنه يعتبر مواقفهم آنذاك تعبر عن أنسنة مؤقتة وضيقة بالنظر إلى إطارها الزمكاني (الدولة الإسلامية -القرون الوسطى).

وبالنظر إلى التطورات الحالية في الفكر الإنساني الحديث والمعاصر، التي أفرزت الموقف الثقافي الذي وصلت إليه الحداثة الغربية عندما اتخذت مسافة نقدية من الموقف الدغمائي المؤسس على الحقيقة الواحدة، المطلقة، التي تنفي ما يخالفها، فإن تكريس الأنسنة في السياقات الإسلامية يتطلب الانفتاح على الثقافة الحديثة والاعتراف بالتعددية المذهبية والثقافية واللغوية الذي هو صفة من الصفات الأساسية والتأسيسية للموقف الإنساني، وهو موقف يلتقي فيه أركون مع إدوارد سعيد الذي يعتبر الأنسنية وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا أنه يقينيات مسلعة، معلبة، مغلقة على النقاش ومشفرة على نحو غير نقدي”.

هناك إذن ضرورة للعمل على إعادة الاعتبار للإنسان وللنزعة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية التي تشهد وقائع وأحداث كثيرة على خلوها من الحريات، وعلى الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، ويؤكد أركون أنه “ينبغي علينا أن نعترف عندما نفتح أعيننا على المجتمعات الإسلامية والعربية أنها خالية من الحريات، فحرية التعبير مفقودة وحرية الصحافة البعد الرابع لما يعرف بالسلطة  كذلك، وحرية التعليم والتربية ولا شيء مضمون فيما يخص حقوق الإنسان”.

والسبب الرئيس القابع خلف هذا الوضع المزري هو غياب المفهوم الحديث للدولة، أي دولة القانون التي تعامل أفرادها كمواطنين لا كرعايا معزولين عن الحياة السياسية وغير مشاركين في وضع القوانين واتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير شؤونهم، فالأنسنة في عمقها مرتبطة بمفهومي المواطنة والمجتمع المدني، المرتبطين بدورهما بمفهوم الديمقراطية، فالمواطنة هي الوصف السياسي لأفراد المجتمع المنضوين تحت دولة-وطن تتبنى الخيار الديمقراطي كنظام للحكم والتسيير، وهي وضعية تسمو على الجنسية وتجعل العلاقة مع الدولة علاقة شراكة في الوطن، وعلاقة تشاركية غير تبعية مثلما هو الشأن في ظل الأنظمة الاستبدادية والإقطاعية التي يعتبر فيها الأفراد رعايا لا مواطنين.

فدولة القانون هي أداة حماية الحريات الفردية من خلال ضمان معادلة الحقوق والواجبات، غير أنه من الضروري التنبيه على أن التحول إلى سيادة دولة القانون ينبغي أن يترافق مع تحول آخر لا يقل أهمية عنه، ونقصد به الانتقال من الفرد-الرعية إلى الفرد-المواطن، وهو ما عرفته المجتمعات الغربية خصوصا منذ إعلان ميثاق حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا سنة 1789، فالمواطنة كشعور بالانتماء مفهوم محوري في قيام دولة القانون، وشرط أساسي للتحول الديمقراطي مثلما هي شرط أساسي في بناء المجتمع المدني.

وهذا الشعور بالانتماء ينعكس في نوع من المسؤولية التي تشعر الفرد بضرورة المشاركة الإيجابية الفعالة تجاه القضايا المطروحة في المجتمع الذي ينتمي إليه، من هنا فإن الانتقال الإيجابي يقوم أساسا على تحرير الإنسان وإطلاق طاقاته كقوة أساسية في التغيير، وهذا ما يتطلب في نظر أركون ضرورة احترام حقوق الإنسان أو ما يدعوه بـ:الأنسنةl’humanisme ففي ظل الحداثة ” من باب اللامقبول أن نرفض للفرد حقا من حقوقه الحياتية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية”.

يشرح أركون أحد مفهوم الأنسنة من خلال مناقشته لموضوع ”الآخر”، أو الصورة التي يشكلها كل طرف عن الطرف الآخر، صورة الإسلام لدى الغرب وصورة الغرب لدى المسلمين، ملاحظا أنه على الرغم من أهمية هذا الموضوع لم يحظ بالاهتمام اللازم في السياقات الفكرية المعاصرة، وإن تم ذلك فإنه يتم في دوائر ضيقة لدي المفكرين الأكاديميين الذين لا تصل أصواتهم إلى الجماهير ولا تؤثر مواقفهم كثيرا في تغيير الصور المشوهة المتبادلة بين مختلف الأطراف، وهذا لطغيان الخطاب الإعلامي- السياسي المتسرع وذو الأهداف الإيديولوجية على حساب الخطاب الأكاديمي الهادئ ذو الأهداف الإبستيمولوجية.

يبدأ أركون مناقشته لموضوع الذات والآخر من خلال رصده لمجموعة نصوص من الكتب المقدسة(التوراة، الإنجيل، القرآن)، ونصوص أخرى لبعض الفلاسفة الكبار على غرار كانط، سارتر، ليفيناس وبول ريكور، تتقاطع هذه النصوص جميعها في كونها تتضمن إشارة إلى كيفية التعامل مع الآخر، ويلاحظ أركون أنه على الرغم من أهمية هذه النصوص وكثرة الاستشهاد بها(لاسيما النصوص المقدسة) إلا أنها لم تستطع تجاوز الإشكاليات المطروحة حول مسألة الأنا والآخر، لأن هناك دائما فجوة بين النظرية والتطبيق العملي على أرض الواقع، يقول في هذا السياق: ”طيلة قرون وقرون راحت الفلسفة واللاهوت يتحدثان بإسهاب على الإنسان، والعقل، وشروط بلورة المعرفة النقدية ونقلها إلى الآخرين أيضا، كما تكلما عن كيفية تشكيل المجتمع البشري المثالي أو المدينة الفاضلة، ولكن من دون دمج للمرأة فعليا، ومن دون دمج الغريب البعيد، ثم بشكل أخص من دون دمج العبد الرقيق”.

بالإضافة إلى هذه النقائص التي ربما تداركتها الحداثة ولو نسبيا، هناك إشكاليات جديدة أفرزتها هذه الحداثة، لاسيما الحروب غير المتكافئة بدءا من إلقاء القنبلة النووية الأمريكية على الأراضي اليابانية، وصولا إلى تدخل القوى المتطورة تكنولوجيا في مختلف المناطق من العالم الذي تمت شيطنته والنظر إليه باعتباره الشر المطلق أو محور الشر، فهنا تحديدا –والقول لأركون- ينبغي”أن نبحث عن الأسباب العميقة لانتشار ظاهرة الإرهاب بصفتها ردا على هذه الحروب غير المتكافئة”، وهذا لا يعني البتة تبرير ظاهرة الإرهاب والعنف مهما كانت صيغه وصوره، إنما يعني بالدرجة الأولى إعلان الحاجة الماسة لبلورة فلسفة جديدة تسمح بالقبول الفعلي للآخر، وجعل الطرفين المتصارعين على قدم المساواة من حيث المسؤولية، فالغرب لا يمكنه أن يستمر في الإعلان عن كونية قيمه من دون أن يدمج الآخر-المسلم في حساباته، ويكف عن اعتباره الشر المطلق ويكف بنفس الدرجة عن إرادته في الهيمنة والبطش و الدوس عن قيم الآخرين.

أما الطرف الثاني أي العرب والمسلمين فينبغي أن يكفوا عن شيطنة الغرب ككتلة واحدة، وأن يكفوا عن تغذية العنف من خلال التلاعب بالمفهوم اللاهوتي-السياسي المدعو بـ(الجهاد)، ويتحولوا إلى توعية الجماهير وتعليمها وتحسين ظروف معيشتها. وضمن الظروف المعيشة حاليا، يبقى العقل (ومن ثم الإنسان) مأخوذا كرهينة في كلتا الجهتين، الأصوليات والإيديولوجيات ذات المزعم الكوني، وهي في الحقيقة تشتغل لصالح إرادات القوة والهيمنة التي تلغي كل العمل النقدي المؤدي إلى«تحولات المعنى و القيم» على الصعيد العالمي.

وقد آن الأوان يقول أركون، في صرخة طوباوية يائسة ”للخروج من هذه الحلقة الجهنمية للعنف والعنف المضاد، لقد آن الأوان للخروج من عهد الأكاذيب السياسية لتبرير فوضى الحروب، آن الأوان للتخلي عن السياسة القائمة على القوة المحصنة، آن الأوان للخروج من تلك الحلقة المبتذلة للتفجيرات الإرهابية من جهة وللرد الهائل المفرط عليها من جهة أخرى”.

لقد أصبح الإنسان هو العدو الأول للإنسان، في ظل الشيطنة المتبادلة بين الإسلام والغرب، ومن ثم لابد من تدارك الوضع قبل ضياع الإنسان، وإعادة الاعتبار للموقف الأنسني القائم على احترام الإنسان والأديان والمهموم بإرادة المعرفة ومقارعة الحق بالحق للحق كما يقول المتصوفة. هذا الموقف الأنسني يتأسس على إعادة تشكيل صورة الآخر وإعادة رسم علاقة الذات مع هذا الآخر، و”ما دمنا لا نعامل الآخر وكأنه ذات، أي كأنه مثلنا، لا يمكن أن توجد نزعة إنسانية، ينبغي أن يتحول الآخر إلى ذات، أو الذات إلى آخر، لكي يحصل التناغم والانسجام في المجتمع والعالم كله”. ولكن الواقع يؤكد أننا وفي ظل معطيات الراهن بعيدون كل البعد عن هذا الموقف الأنسني الذي يدعو إليه أركون-سواء نحن العرب المسلمون أو غيرنا- لهذا قلنا بأن موقف أركون هذا ليس إلا صرخة طوباوية وأفقا للانتظار، ولكن الطوباويات أيضا تبقى ضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات، لأنها تعبر عن التفاؤل بمستقبل أفضل وهو التفاؤل الذي أعلنه أركون في إجابته عن آخر سؤال طرحه عليه مترجمه وصديقه هاشم صالح، حين سأله، هل أنت متشائم؟ فأجاب:”لالا أنا لست متشائما على المدى البعيد” .

واستعمال أركون لمصطلح الأنسنة بدل مصطلح حقوق الإنسان مرده كون هذا المصطلح الأخير -بالنظر لمعطيات الراهن- قد أصبح مفرغا من محتواه نظرا للتوظيف الإيديولوجي الذي تعرض له حيث أصبح ذريعة تستعمله الدول العظمى للضغط على الآخرين أكثر مما تتقيد به في تعاملها معهم، والأمثلة على ذلك كثيرة خاصة تدخلات الدول الغربية المتزايدة في العديد من الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وليس واقع حقوق الإنسان في الداخل العربي بأحسن مما هو عند غيرهم، يؤكد أركون ذلك قائلا: « من المعلوم إن مبادئ الإخاء والتضامن واحترام حياة الأشخاص وأرزاقهم هي أشياء طالما تحدث عنها القرآن وكرر الحديث وكذلك فعل التراث الذي تلاه، ولكن هذه المبادئ “تطبق”الآن في المجتمعات الإسلامية بشكل مأساوي مرعب، وفي جو من الإرهاب المعمم على المستويين المحلي والدولي».

من خلال هذا الوضع فإن الكلام عن تحديث مجتمعاتنا يمر حتما عبر تحسين وضعية حقوق الإنسان، وتعزيز قيمة الإنسان وصيانة كرامته وتدعيم حريته، فالأنسنة ترسيخ للحرية واحترام للاختلاف والتعددية، يقول أركون:«الاعتراف بالتعددية المذهبية والثقافية واللغوية هو صفة من الصفات الأساسية والتأسيسية للموقف الإنساني»، وهذا الموقف الإنساني يغتني ويتدعم من خلال توفير فرص التثقيف الحديث وفتح آفاق التبادل المبدع مع مختلف الثقافات، دون تفضيل لثقافة على أخرى.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق