آراء

أنقذوا الثقافة من يد المتثقفين

 أو أن المسؤولين عن الثقافة في بلادنا لديهم نظرة أخرى للثقافة، ويعتبرون الثقافة هي الرقص والغناء والفن الماجن والكلام الهابط، وكيف ينظر المجتمع الجزائري الى الثقافة، هل ينظر اليها كما ينظر اليها المسؤولين؟ او ان المسؤولين زرعوا في الشعب الجزائري ثقافة واحدة هي ثقافة الشطيح والريح؟ والثقافة السوقية التي لا ترتقي الى ادنى المستويات من الفن ولا من الابداع.

أريد قبل التحدث والتطرق إلى مشكل الثقافة في بلادنا ان أعطي مفهوما للثقافة من خلال كلام أحد المفكرين الجزائريين ولا اريد ان أستورد كلاما او تعريفا للثقافة خارجا عن المفكرين الجزائريين، فإبن البلد هو من يعرف طبيعة مجتمعه ويستطيع ان يوصلنا الى نوع من الحقيقة في تعريفه، واتحدث هنا عن المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي عرف الثقافة بصفة عامة بقوله: ” الثقافة تتعرف بصورة عملية بأنها مجموعة من الصفات الخلقية و القيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته و تصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه؛ فهي إذن ” المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه و شخصيته”.

ويضيف مالك بن نبي أيضا بقوله ” و هذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، و الذي تحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. و هكذا نرى أن هذا التعريف –يقول بن نبي- يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان و فلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان و مقومات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المقومات جميعا في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما أذن فجر إحدى الحضارات”، هكذا عرف لنا مالك بن نبي الثقافة وجعلها هي نتاج مجتمع او فرد، وهي انعكاس للحضارة التي تعيشها امة ما، فلو كانت الحضارة مضمحلة وفاسدة فالطبع سوف تكون نتاجها الثقافي فاسد ومضمحل وغير اخلاقي، واما اذا كانت حضارة الامة راقية وذات اهداف سامية فسوف تنعكس على الثقافة بالرقي والتطور، ويضيف ايضا مالك بن نبي ما يأتي : ” الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس و يطالعه في الكتب، بل هي ” نظرية في السلوك ، أكثر من تكون نظرية في المعرفة، و بهذا يمكن أن قاس الفرق الضروري بين الثقافة و العلم.”

وهنا فرق مالك بن نبي بين العلم والثقافة، وذكر ان الثقافة هي مجموعة من السلوكات الاخلاقية المكتسبة وليست بشرط ان نتعلمها في المدارس أو نقرأها في الكتب، بل الثقافة أوسع واشمل من هذا بكثير، ولقد ربطها ايضا مالك بن نبي عليه رحمة الله بكونها نسقها سلوكيا يسير مع التاريخ، واعتبر ان الثقافة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتاريخ، وقال ان المجتمع الذي ليس له ثقافة هو مجتمع ليس له تاريخ وربطها ايضا بالدين، فقال ان الفكرة الدينية هي التي تسير وتحكم الثقافة في شتى مجالاتها، فقال رحمة الله عليه ” لا يمكن لنا أن نتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي يفقد ثقافته قد يفقد حتما تاريخية “.

 الثقافة- بما تتضمنه من فكرة دينية انتظمت الملحمة الإنسانية في جمع أدوارها من لدن آدم- لا سوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان ، بل هي محيط يحيط به و إطار تحرك داخله، فهو يغذي جنين الحضارة في أحشائه، إنها الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، و هي الوسط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بمن في ذلك الحداد و الفنان و الراعي و العالم و الإمام، و هكذا يتركب التاريخ”.

فلقد تعمدت ايراد هاته المفاهيم، وادخل جملة من المصطلحات في مجال الثقافة من منظور المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي من ثقافتنا ايضا وثقافة مجتمعنا وسلطتنا لا نعرفه ولا نعرف حقه ولا نقدر قيمه علمه عليه رحمة الله، بذلك قصدت ادراج جملة من مقولته فيما يخص التعريف بالثقافة في هذا المقال، فإذا اعتمدنا على ما ذكره مالك بن نبي حول الثقافة وما تشتمل عليه الثقافة، فسوف نجد اننا خارج مجال الثقافة بأشواط كثيرة، وان ما تقوم به الوزارة الوصية عن الثقافة وما يقوم به مدعوا الثقافة ماهي الا اعمال فنية او إبداعية لا دخل لها في الثقافة ولا في الأخلاق ولا في المجال الحضاري، ولا يمكن لهم الإدعاء بالثقافة او المثقفين ابدا.

فالثقافة سلوك قبل ان تكون إبداعا او فنا، وهي أيضا أخلاق وتربية عند الفرد يتعلمها منذ الصغر، وتكبر معه في سلوكه وحركاته ولباسه وكلامه وغيرها، فكل ذلك ينم عن ثقافة في الفرد، ولا يمكن ابدا الجمع بين العلم والثقافة وجعلهما متلازمين، فالثقافة شيء والعلم شئ اخر، فالثقافة تولد العلم .

 ولكن العلم لا يولد الثقافة، فهناك فرق كبير بين المجتمع المتعلم والمجتمع المثقف، واما مجتمعنا فيعاني منهما الاثنين فلا هو مجتمع متعلم بالمعنى الصحيح ولا هو مجتمع مثقف بالفعل، وانما ارتبطت مفهوم الثقافة لديه بما انتجته وزارة الثقافة عنده، من سهرات وحفلات، حتى ارتبط اسم الوزارة وللأسف بهذه الافعال البعيدة كل البعد عن القيم الحضارية والدينية للمجتمع الجزائري.

ويمكن ان يطرح التساؤل التالي وهو ان المجتمع الجزائري لم يتغير وانما هذه هي عاداته وتقاليده وثقافته؟ ولكن نرد على هذا السؤال بالنفي القاطع فلقد كان المجتمع الجزائري في فترات وعهود سابقة، مجتمعا محافظا متزنا، مرتبطا بقيمه وعاداته وتقاليده الروحية والدينية والاجتماعية، التي تفرضها عليه الروابط الفكرية والعقائدية الاسلامية، فكان خلال الفترة الاستعمارية محافظا جدا، وما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومدارسها، وعدد تلاميذها واعضائها في كل الولايات والبلديات، وعدد اتباعها، هو الدليل القاطع على محافظة الشعب الجزائري وارتباطه بقيمه وشخصيته.

ولكن مع جيل الاستقلال تغير الحال وتبدل، وظهر عندنا الفكر التغريبي وادعياءه، وظهر الدعاة للحضارة الغربية وفكرها، وللأسف وصل هؤلاء الى المراتب العلياء في الدولة واصبح لديهم قوة السلطان، وعاثوا في هذه بلادا فسادا، فلم يكفيهم الفضائح اليومية حول الاختلاسات المالية، فيريدون توجيه الشباب والثقافة توجيها بعيدا عن اصلها ومعناها.

فمنذ فترة بدأت في بلادنا حصة تلفزيونية تسمى بـ” ألحان وشباب”، وتمول هاته الحصة العديد من المؤسسات العمومية او الخاصة وهي حصة غنائية لا اكثر ولا اقل، وتصرف من اجلها مئات الملايين اذا لم اقل الملايير، فلو كانت هناك حصة في الثقافة الفعلية أي في مجال الكتاب او دعم الكتاب او طباعة المخطوطات وتحقيقها، او اعادة احياء التراث الفكري الجزائري، لما صرفت من اجله تلك الاموال.

ولم تتوقف الثقافة التي يدعونها عند الغناء، فدخلوا الى الحرم الجامعي، وحاولوا طمس الشخصية الاسلامية وضرب المجتمع في ركيزته وهي فئة الشباب وبالأخص الطلبة الجامعيين، فنظموا مسابقة “ملكة جمال الجامعة”، وياله من عار عندما نسمع في بلد مثل الجزائر ينظم مسابقة في مثل هذا الامر، بالفعل ندرك ان قمة الانحطاط الاخلاقي و التلاعب بمشاعر المجتمع وقواعده وخصوصياته بلغت ذروتها، والادهى والامر ان تجد مشاركين يتدافعون عن مثل هذه المسابقات، فهناك تدمع العين الدم بدل الدمع، ويتقطع القلب قطعا، ويتحصر الفؤاد على مثل هكذا اخبار، في حين نجد ان الجامعة الجزائرية غير مصنفة اصلا في مصاف الجامعات العالمية، ولا توجد جامعة جزائرية واحدة فقط مصنفة، وايضا نجد ان الجامعة الجزائرية تشهد تدهورا اداريا وطلابيا وعلميا واكاديميا، فكان بالأحرى ان تنظم مسابقات تدعوا الطلبة الجامعيين الى البحث العلمي، والى الابتكار والاختراع، وغيرها من المسابقات التي تجعل من الطالب الجامعي مبدعا و فاعلا مثقفا حقيقيا، ولكن للأسف فهؤلاء يريدونها ثقافة سطحية تجعل من الشعب بعيدا عن كل مقوماته الدينية والوطنية.

وأيضا لم يتوقف الامر عند الجامعة، فلقد خرجت لنا في آخر المطاف مسابقة ملكة “جمال الجزائر”، والتي كانت الصاعقة التي ضربت الجزائر وكشفت الاسرار الخفية لهؤلاء الانجاس، عندما صرحت العجوز الشمطاء الفرنسية في كلمتها وقالت ” احس انني في فرنسا”، فهي لم تكذب في قولها، لأنها كانت في تلك القاعة ومع اولئك الناس الحاضرون انها في مجتمع اوروبي او فرنسي بالأخص، فاللغة فرنسية واللباس فرنسي والموسيقى فرنسية والعادات والتقاليد فرنسية.

فهي لم تكذب ولم تخطأ وانما قالت الحقيقة التي عاشتها ولاحظتها، فهم يريدون منا ان نكون هكذا، ويريدون ان يصلوا الى ما لم يصل اليه الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة خلال تواجده على ارضنا، فلم يستطع ان يغير عقيدتنا ولا لغتنا ولا ديننا ولا عاداتنا وتقاليدنا، ولكنه ترك وراءه، من يكمل مسيرته بخبث وسياسة ماكرة، من اجل ان يبعدوا المجتمع عن هويته وعن اصالته وعقيدته.

ولن اتحدث عن المهرجانات الغنائية اليومية، وعن حفلات الرقص المنتشرة في كل مكان، وعن ثقافة الشطيح والرديح التي تباركها وزارتنا، ولكني ذكرت امثلة فقط عن الثقافة التي نحن نراها ونعيشها، وهي ليست بثقافة بقدر ما هي سخافة وحقارة ونذالة، لهذا يجب علينا ان لا نربط كل ما ذكرته آنفا بمصطلح الثقافة وان نربط المسميات بأسمائها، فالمغني مغني، والراقص راقص وهكذا، فهم بعيدون كل البعد عن الثقافة، واذا كانت هاته الاشياء تقوم المجتمع وتطوره وتحضره، وتجعل منه قدوة، فأهلا وسهلا، واما ان كانت تفسده وتفسد طباعه واخلاقه فلا أهلا ولا سهلا ولا مرحبا بها ولا بأدعيائها ولا بأهلها.

وعلى المسؤولين في المجال الثقافي أن ينتبهوا الى هذا الامر، وان يعلموا ان الثقافة في بلادنا متدهورة بشكل كبير، فمئات الملايين التي تصرف في سهرة فنية واحدة، قادرة على بناء مكتبة في منطقة نائية، وقادرة ايضا على تحقيق وطبع مئات المخطوطات التي تحتاج للطبع والنشر، واعادة الاعتبار لها. واتمنى ان تكون رسالتي وصلت.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق