دراسات وأبحاث

التقني في العرض المسرحي

 لذا يكون عمل التقني في صلب العرض المسرحي، ومناخاته وأجوائه وصياغة بنيته.

 وإذا كان نص المؤلف يمر بعدد من المتغيرات والإجراءات ليصل الى المتلقي، وكما تشير الدراسات والأبحاث المعاصرة التي تؤكد، أن نص العرض في حقيقته يتكوّن من خمسة نصوص هي : نص المؤلف، نص الممثل، نص التقني، نص المخرج ونص المتلقي.
ويظهر جليا ان التقني تمركز في الوسط تماما بين طبقات نص العرض، التي تراكم عليه نصا المولف والممثل، وهذا التركيب والتداخل يخلق نسيجا آخر من نص للمخرج وصولا الى تأويلات نص المتلقي. 
ومما لاشك فيه، ان تقنيات العرض المسرحي تشكل نسقا ضمن منظومة العرض، وتسهم بقوة في تشكيل قيمته الجمالية والفكرية، من خلال كيفيات توظيف تلك التقنيات، وإستقرائها للعوالم المتغيرة في حياة الابطال في نص المؤلف من جانب، وللمتغيرات التي تحفل بها الحياة من جانب آخر.

 إن التقني يجتهد ان يؤسس لهذا العالم المتخيل، من خلال منطق التقني ذاته. وفضلا عن كونه حرفيا في ميدانه، فانه في الوقت ذاته عقل متميز، لدية طاقة لايعلنها جهرا، وإنما يتم تلمسها، في ضوء معالجته الفنية وابتكاراته المتنوعة التي تتم صياغتها في مفرداته التقنية، وان تنوعت تلك التقنيات : الإضاءة المنظر، الأزياء المكياج، الموسيقى والمؤثرات الصوتية.
ان للتقني حرية مقرونة بالوعي الفني،والتداخل والتفاعل بين التقنيات المختلفة، ضمن سياق العرض، وحريته تكمن في الكشف عن الخبيء والممتنع داخل نص المؤلف، الذي يشكل استشعارا ينطوي على قدرة عقلية وتحليلية وعمق بدرجة الغوص في ثنايا النص والاجتهاد بايجاد وحدة كلية لمركبات تلك التقنيات، بوصفها تشكل خطاب العرض المتضمن رؤية المخرج الفلسفية للكون والعالم والحياة.
إن سرية عمل التقني كونه يخلق عالما من الاشتباكات الجمالية والفكرية والفنية، مما يجعل العالم المتخيل (الافتراضي) عاجا بالحيوية، مليئا بالصور والأفكار، موغلا بالعمق.
ان نص التقني متشعب، ومتحرك، ويحفز الخيال في التكهن والإستبصار، وأحيانا يستجلب تحفيزا للتخيل، وبذلك يصوغ استجابات متنوعة ومتضاربة للمتلقين، من خلال النفاذ الحذق في تشكيل صور مختلفة، وأشكال جذابة، وإيقاعات جمالية لها قدرة الاستحواذ والتغلغل، شعوريا وإدراكيا، في ضوء الكيفيات التي يرتئيها بتشكيل فضاء العرض المليء بالرموز والدلالات والمحفزات للتدليل على نص التقني، ولان التقنيات متنوعة، سيتم التطرق الى تقنيتين فقط أولاهما الأزياء التي تكتسب قيمة مضافة الى قيمتها الحقيقية في الحياة، لأنها تقترب من فن النحت واعتمادها على الابعاد الثلاثة:الطول، العرض، العمق. ويضع تقني الازياء في إعتباره، كونها رداءا للممثلين، والتقني الحرفي سيضع في حسبانه الكثير من الاشتراطات ليجعل من تصميمه للازياء مقبولا ومقنعا ويتمتع بمرونة الحركة وانسيابيتها، لكن التقني المبدع الذي يتجاوز الحرفي في مساحة التفكير والرؤية، يبحث عن امور أخرى أكثر اثراء واشد وقعا وأجمل تأثيرا في المتلقي، ففضلا عن حرفيته، فانه يسعى للاجتهاد من خلال الأزياء بوصف المساحة التي يتحرك ضمنها تتيح له التألق والتفهم والسير جنبا الى جنب مع رؤية المخرج الكلية للعرض. ان الاتفاق مع المخرج لايلغي شخصية وكيان التقني البارع، في الابتكار والتجديد، ومحاولة خرق نص المؤلف- باعتباره نصا ليس بمقدس- من هنا يستطيع التقني خرق النص المألوف من خلال الزي، فالجوهري طريقة التفكير في الأزياء وعدّها عنصرا مساهما بتكوين لغة العرض، والممهد لعمليات الخلق، وإحداث الدهشة، من خلال الأزياء سواء اكان التقني – مصصم الأزياء يشكل رؤيته متجانسا او مشتقا من فلسفة المخرج ذاته، شرط ان لاتتعارض معه، وإنما تتفاعل وتزيد من كثافة وحيوية العرض.
ويقف التقني احيانا إزاء حقبة تاريخية تشكل اطارا او وعاء للأحداث ومنبتا للأبطال، فيتأملها ويتعرف على تفصيلات متنوعة ضمن تلك الحقبة التاريخية.

 إلا أن منظور التقني قد يجد فضاء اكثر سعة، فعوضا عن محاكاتها، يبدأ بالبحث عن طريق خاص لخرق الازياء التاريخية من نقطة محددة، فهو يعود الى الطراز التاريخي من جهة، ويبحث بعمليات الخرق من جهة أخرى، من اجل تحميل الازياء أفكارا وتعليلات وتفعيلا للأفكار الثاوية في أعماق نص المؤلف، واستجابة لرؤية التقني المعاصرة. او تعد عمليات الخرق توسيعا للمعنى، وعدم الإكتفاء بالدلالات المألوفة للازياء مثل: العمر، البعد الإجتماعي، الجنس، العصر الذي يحياه الابطال … الخ
ان هّم التقني بالدرجة الأساس إيجاد منافذ للتسلل الى الافكار ومن خلال الازياء وطرح قضية جوهرية تتعلق بالحياة وقضاياها المعاصرة : إجتماعية، سياسية، فكرية، أو القضايا التي تشكل قلقا أزليا لوجود الانسان مثل :الخطيئة، لوثة الإثم، الحرية، الموت.. الخ.
ان التقني المبدع، لايكتفي بالمحاكاة العمياء المميتة للازياء، وانما يعيد بناء الازياء وتكوينها كمن يشكل عالما من الافكار والدلالات والمعاني، بعد ان يقطر المنافذ التي تكون صمام الخرق ومنفذ التأويل. ان سعة فضاء عقل التقني، تسهم بعمليات اكتشاف الجديد غير المألوف، التي تعبر بهذه الدرجة او تلك عن رهافة حسه وعمق وعيه الجمالي، وقدرة حرفيته العالية،ونسيجه الابتكاري الذي يشكل حيوية بارعة، التي تكون سببا باختلاف مصممين لعمل مسرحي واحد، وان اتفقا على المنهج، لكنهما يختلفان على الكيفية في تجسيد الشكل الجمالي للازياء. ان الإختلاف، يعد نواة التفرد الإبداعي، لان الافكار ستؤثر على شكل العرض ومضمونه الفكري، بوصف الدلالات التي ينشؤها التقني، متحركة، وتوثر في الانساق التقنية الأخرى وبأجمعها تشكل نظام خطاب العرض.
ان أزياء العرض معا تشكل نحتا نسيجيا وبمجموعها تتشكل جدارية الازياء الجمالية المتحركة، وللأزياء عناصرها: الخط، اللون، الخامة او المادة، الملمس، الشكل، الحجم، القاعدة والفضاء.
وتقني الازياء يشتغل على واحدة من تلك العناصر أو أكثر، لينفذ الى نص المؤلف، ويشكل منطقة التاويل، او كشفا لهوية الابطال، او تعميقا بحالتهم العاطفية والنفسية والفكرية والسياسية او للاشارة بطرف خفي للقادم الذي يصعب البوح به… الخ
فقد يتلاعب التقني بحجم الازياء الاغريقية ويمنحها طولا غير مألوف تاريخيا، ان ذلك سيشكل دلالة لمعان متعددة، سواء أكانت لمدلولات محددة: ايقونية، رمزية، اصطلاحية. ان استخدم الحجم لتفعيل نص التقني الجمالي المبتكر، والعميق المتحرك في الفضاء الاوسع لحركية المدلولات التي تشير اليها سعة حجم الازياء كالعباءة الطويلة جدا للبطل الإغريقي واستدعاء مدلولات أخرى موحية : الموت، الإنهيار،السقوط، الإثم…..الخ بحسب الحالات المراد ابرازها وتوكيدها، او المتكهن بها في متن العرض المسرحي. ان تغيير الحجم للازياء، سيرتبط بفاعلية عالية بالصورة المسرحية ويشتغل بالشكل الفني، ويفتح بابا للتأويل.
واحيانا يشكل الزي منظر العرض. او ان يكون المنظر واحدا من قطع الازياء، اذ يوسع تقني-الازياء-العباءة ويزيدها حجمها اضعافا وتعلق في فضاء المسرح ويدور داخلها الابطال، وقد تتحرك العباءة اثناء العرض ويختفي الابطال تدريجيا داخلها، اذ ضمتهم العباءة ولايظهر في الصورة المسرحية غير حركة الابطال من خلال حركة أجسادهم.

 وقد تسقط العباءة تدريجيا من الاعلى للأسفل وتتضح الصورة المتفلسفة في الشكل الفني في ضوء المتخيل والعجائبي في الصورة المبتكرة، وطبيعة العالم المجازي المتحرك، المقلق والمثير والمحفز، لغرائبيته.
وقد تدخل الاضاءة بوصفها نسقا يتسق في نظام الأزياء ويتفاعل معها بقوة وعمق وعلى سبيل المثال، ان اختار التقني اللون الابيض لازياء حقبة اغريقية، فانه يضع في الاعتبار الضوء الساقط على تللك الازياء، فان تم أسقاط اللون الاحمر، عكسته بحسب لون وملمس خامة الازياء، وان سلط اللون الازرق، عكسته، اما ان سلط كلا اللونين من الجانبين،سيظهر البطل الذي يرتدي الزي بلونين: الاحمر والازرق ان حرية التقني الخلاق بتشكيل نصه الابداعي، لاتتأتى الا من خلال، شعور بقيمة جمالية، وامكانية حرفية عالية المستوى، بوصفه الباحث بجد عن خبايا النص الذي ينفذ من خلاله لعالم يوتوبي، ويحيل العالم المتخيل، حلما عذبا، وان كان مشاكسا احيانا، لانه يمنح لنفسه حرية عالية ومدركة للعمق الجمالي . ان ذلك يؤسس للعقل التقني ومنطقه الساعي لتطوير الذائقة الجمالية.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق