دراسات وأبحاث

أنثربولوجيا النسق الثقافي للمستوطنات الأولى ما قبل التاريخ والعمارة والنحت

ولنا أن نتخيل , أو يمكن أن نتخيل الحياة ,بدون فن !!؟ وتزداد التساؤلات تواترا وعمقا. فالحياة العصرانية ضمن شبكة العلاقات قد تعقدت.

 وصارت أكبر من كونها معقدة وعلى المستويات كافة , فالفن يعُد ضرورة من ضرورات عصرنا.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بقوة: إذا كان الفن ضرورة حقا , فهل كان إنسان المستوطنات الاولى , ماقبل التاريخ ,أهتم بالفن أيضا وشكل الفن ضرورة قصوى!
مما لاريب فيه, إن الإجابة ستكون, نعم إذ اعتبر الفن ضرب من الحاجة لاغنى عنها.

 ولكن ,مانوع الفن والحاجة ؟ وماهي الغاية التي تقصدها انسان تلك الحقبة التاريخية ؟ .كلنا يعلم أن الحياة البشرية مرت بتحولات كبرى , هزت الجنس البشري, وفتحت آفاقا واسعة .

فعلى الرغم من كون انسان تلك العصور السحيقة كان مندمجا مع الطبيعة ,(( فالظواهر الطبيعية كان ينظر فيها كأنها تجارب انسانية ))(1) ويتحرك على وفق إيقاعها وأهوائها,ذلك انه الانسان يحاول ((تفسير الظواهر الطبيعية , وذلك ان يغدق على عالم الجماد صفات انسانية))(2).

إلا أنه إشتعل على الرسم على جدران الكهوف, وفي عقله الفريسة التي سيطاردها, ويفترسها ليضمن البقاء حيا.ان النسق الذي كان يحياه, يشكل نظاما في بدء النشوء , وبذلك تشكلت نواة التفكير في مهادها الاولى , بكلمة أخرى , صاغ الطريق للتحولات الكبرى في الحياة .

فبعد أن شد انسان الكهوف الرحال الى السهول في الوديان القريبة , حتى تبلورت بعدها إنساق ثقافية جديدة , تداخلت وأنضجت الفكر وسرّعت من وتيرة خطاه, إذ تحول الانسان من مطارد للفريسة الى مدجن لها .
إن الفرق بين من يسكن الكهف ويعيش متطفلا على الطبيعة , يختلف في النوع والدرجة عمن يسكن المستوطنات الأولى ماقبل التاريخ مثل قرية (( جرمو, التي تعد من أقدم القرى الزراعية المكتشفة لاول مرة وترجع في تاريخها الى أقدم من سنة 6600 ق. م)) (3).

وهناك مستوطنات أخرى مثل (حسونه وقره تبه), بوصف المستوطن هو مزارع ينتج, ويؤمن حاجاته, وهي درجة كبيرة من التطور في حينها وكأنها إنقلاب كوبرنيكي , مما خلق نسقا ثقافيا منتظما, يؤمن بالعمل مبدءا وإشتغالا, وبالتالي ظهر مبدأ التنظيم في الحياة الإجتماعية.
إن نزوح الانسان من الكهوف الى السهول ليستقر فيها ويستوطنها, يعد توظيفا جديدا غير مسبوق, وخطوة قلبت مفاهيم الحياة الى التطور, فقد اضحى الانسان مخططا للسكن بإرادته, بمعنى انه فرض ارادة على الطبيعة, والتلاعب بشكلها على وفق مايرتئيه, وما يراه ملبيا لحاجاته ورغباته وطرائق تفكيره, وبذلك نشأ فن العمارة  بأبسط اشكاله .

وبتعاقب العصور اللاحقة أسست المدن الكبرى فالحضارات المتعاقبة ,ومنها صار ديدن الانسان نسغ التطور في المجالات كافة.

إن العمارة فن التحدى للطبيعة من جهة ,وإبداع وظيفي للإنسان من جهة أخرى بوصفها كشف عن العقل: المعماري, الهندسي ,الفيزيائي,الجمالي , والوظيفي للإنسان.

 وان كانت بأبسط اشكالها الا انها كانت تعبيرا عن تصميم عقلي على الخلاء , وملئه بالجدران , وافتراش الارض , بمعنى خلق صورة أخرى للأفق الممتد , فالعمارة بمثابة الشاخص القاطع لأمتداد الأفق , وهذا شكل من أشكال التحدي البشري للطبيعة , بقطعها وإعادة تركيبها من جديد.
لهذا فان العمارة فن راسخ , يعكس طبيعة التفكير ورجاحته, ويعني الثبات في التخطيط وتراكم المعرفة وإنبثاق معارف جديدة . فاذا كانت (جرمو) قد أحيطت بسور دائري , والبيوتات اتخذت الشكل الدائري و البيضوي لمباني ام الدباغية (4).

 التابعة لعصر حسونة فإن ذلك يشير الى عقل يرتاب بالمخاطر القادمة, ويضع فاصلا بين المستوطنه وما يقع خارجها,وهي اشارة لتعقيد التفكير بما يمكن حدوثه .

 وهي صيغة تعني تطور العقل البشري وإرتيابه بالقادم غير المرغوب فيه , وفضلا عن ذلك التهيئة النفسية والعملية للحماية من الخطر الذي صار بالنسبة اليه محدقا, أو قاب قوسين أو أدنى.
ومما لاشك فيه , ان العمارة فن في شكل التصميم وروعته, فللمرة الأولى أوجد الإنسان مسكنا وسقفا من صنع يديه , وبالتالي تعلم رص الاحجار وأوجد المادة اللاصقة من الطمى ,انه عالم تركيبي بدأ من نقطة وبعدها لم يتوقف حتى عصرنا الحالي , والمدهش انه اوجد اماكن للتخزين , بمعنى ظهور عملية التنظيم ومحاولة السيطرة الاقتصادية وذك بتوفير الغلاة وحزنها للأيام التي يحتاجها . 
وتعد هذه درجة عالية من البناء التنظيمي للحياة الإجتماعية , فلم يعد انسان تلك القرى الزراعية متطفلا على الطبيعة , بل يعيد ترتيب اوضاعها من خلال إدامة الغلاة وربما المواشي التي دجنها , ليتم الاستفادة منها لاحقا, حتى لايواجه الجوع . 
((في تل حسونه الذي وجدت فيه طبقات سكنية تجاوزت العشرطبقات , تساوي عشر اجيال من التجمعات السكنية وجدوا المخلفات لقاطني تلك الطبقات , وكل طبقة تكشف عن درجة التطور التي كانوا يحيونها)) (6).
إن النسق الثقافي يبلور نمو طريقة التفكير من خلال إختلاف تلك المخلفات التي تعبر عن شكل من أشكال الحضرية الصاعدة وإن كانت في مرحلة الطفولة الإجتماعية , والجدير بالانتباه فت تل حسونه تعميق الوعي بالصناعة وتحديدا بالتلال الصناعية التي كونها قاطني تل حسونه , فالطبقات السكنية إذا ما ابعدنا الجانب النفعي بالسكن .

 سيتم ملاحظة الجانب الصناعي بالموضوع , المتضمن هم إنسان تلك الحقبة التاريخية, بالتلاعب بالطبيعة وتشكيلها تدريجيا على وفق منظوره العقلي .

 فالتلة صناعية التكوٌن, وهي النقطة التي ستشكل نواة التفكير الصناعي لاحقا في عصور الحضارات اللاحقة , ونقطة إرتكاز جوهرية. 
والجدير بالإنتباه, إن طبيعة النسق الثقافي لإنسان المستوطنات , سعيه الى التطور والحفاظ على الهوية والجماعة , وإن ذلك علامة لنمو الهاجس الجماعي وتعزيز لتحديد الهوية , وإن قرنت بساكني الكهوف , يعد نقلة نوعية بصيغة التفكير.

 وهذا ينم عن شكل آخر من أشكال الوعي المبني على معطيات مادية أفرزها نشاطه الإنساني.

 والعمارة على الرغم من تصميمها البسيط, إلا انها شددت على التنظيم العميق للإنسان, إذ اتسمت طبيعة هندسة التصميم للمساكن بأنها قد توزعت بين الانسان والحيوان الذي دجن , وبذلك أشتغل الانسان على التخصص السكني , بعد ان أطمأن, فأوجد المشترك بين البيوتات فكان الشارع الي تطل عليه.

 وبذلك تشكل المشترك بين بني البشر , كما تجلى ذلك بوضوح في حضارة ( عين غزال ) (7) .

 ففي الاردن تم الكشف عن هذه الحضارة قبل خمسينا عاما تقريبا. ان ثقافة انسان ماقبل التاريخ, لم تكتف عند هذا الحد , وإنما تفننت بخلق الانتماء , لا للعائلة حسب وإنما للقوم / المجتمع كافة , فاوجد المعبد , وكان المركز, وهندس الجهات الاربع ليصون نفسه بها , وليزداد تحكما وقوة وتماسكا .

وقد إضطر البشر أضطرار بإيجاد المركز الديني في عصور ماقبل التاريخ,لان شعوره بالضعف قد أملا عليه, ردم فجوة الخوف من الطبيعة المتميزة بالقسوة والصرامة في قسم كبير من مظاهرها, واراد التوازن مع الطبيعة المنتفضة بقوة , والضاربة بشدة ,على الوجود البشري المتحدي لكينونته.

 لهذا جاءت تلك المظاهر العنيفة امتدادا للبعد الميتافيزيقي في العقل البشري ,فللشمس آلهة , وللحرب ألهة , وللعواصف , والنار , والفياضات …الخ وأوجد للجمال والحب آلهته…..الخ
لقد وزع الآلهة على المظاهر الطبيعية , تلك التي تشعره بالهلع والخوف والاضطراب ,والمظاهر الطبيعية التي يأنس اليها , وبذلك خلق نسق ثقافي. 
للميتافيزيقيا في بواكيرها الأولى, منسجمة مع طبيعة التفكيرالطفولي لبني البشر , لينعتق الانسان من أسر الطبيعة متوجها الى عالم آخر مختلف, عالم فيه ما يفوق الطبيعة, ويتحكم بالمصائر والأحداث ويمكن استقطابه والفوز برضاه من خلال التوسل أو النواح أو تقديم القرابين تزلفا لرضا الآلهة .

فامتدت الشعيره الدينية وشكلت محورا جمعيا للكل ,تمحوروا فيه ومن خلاله , وتعمقت البنية الذهنية في العقائد السحرية والدينية , وبذلك تم الترويج لرجالات تلك العقائد الذين يشكلون الخيط الرابط بين البشر وتلك القوى الساكنة في الاعالي,ان الخاصية الجماعية بالانتماء الكلي لا الجزئي , وبالولاء التام لكل مايشير إليه رجل الدين في تلك الحقبة ,لهذا طمست هوية الفرد وتعالت الهوية الجماعية لهم . فالطقوس واجب ألهي لامحيص عنه.

من هنا ذاب الفرد وهويته المتفردة تماما مهما كان مبدعا , وبقيت الجماعة الهوية الأكثر قوة وصرامة وتحد.
والجدير بالملاحظة , ان هذا النسق الثقافي امتد في الحضارات العراقية الكبرى , فلا نجد اسم لمبدع, معماري او نحات…الخ اما الملوك وهم اباطرة الازمنه , تدون اسماءهم, وتؤرخ افعالهم , ويحرصوا ان يذكروا في اكثر من باب من ابواب التمجيد , لانهم امتداد للآلة- كما يعتقد – لهذا بقي سرا دفينا لم يعرف مبدعوا المنجزات الكبيرة التي شكلت علامات في التاريخ فمن : صمم الحدائق البابلية , ومن صمم مدينة أور, ومن كتب ملحمة كلكامش ومن إبتدع الحرف السومري……الخ.
ان ثقافة المستوطنات الاولى وما تبعها من حضارات , فرضت وجودها ضمن مفهوم الانتاج الجماعي / المجتمعي , بوصف ايُ نتاج لايخرج عن الجماعة او الجماعية, فان سطوة الروح الكلية للمجتمع , تعد وجها من اوجهه الثقافية لا على المنجز حسب , وانما على كل انواع النشط الاخرى ,فالمبدع يلغي ذاته, انسجاما مع الجماعة , ليبقى الابداع ويهمل المبدع لذلك المنجز ,وتعد هذه خاصية من خواص النسق الثقافي آنذاك , إذ يتم تأرخة المنجز ثقافيا من غير أن يذيل بالأسماء او الأشخاص.
لقد إستولى البعد الميتافيزيقي على العقل البشري وصنفه وتحكم به وجعل منه مطيته, ومقابل ذلك يستحصل الانسان على الآمان, إذ يلوذ الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها ولا يقبل الإنفصال عنها مهما حدث , لأن كيانه مقرون بها.
إن نسق الثقافة يشدد على الجماعة , وقد توارثته الاجيال اللاحقة بعد ان نجحت تلك المستوطنات وتطورت الى مدن, اكثر تخصصا وتعقيدا , ويمكن ملاحظة إمتثال هذا المفهوم الثقافي بأغاني العمل الجماعية لحد الان .

 وعلى وجه الخصوص في المجتمعات المرتبطة بالأرض, فالكل يتوحد بإيقاع غنائي واحد وبالوقت ذاته الكل يقوم بالعمل المناط به, ضمن وحدة الايقاع الغنائي والحركي,ويبدو ان النسق الثقافي بقى مهيمنا على حاله أو جزءا كبيرا منه حتى الان في القرى والقصابات قليلة الاحتكاك بالمدن المجاورة.

ويتجلى بوضوح كبير بفن العمارة الذي تصدر الفنون , وإن كان رسم جدران الكهوف قد سبق العمارة , لكن الرسم لم يخرج عن أطر وظيفة الصيد ومطاردة الفريسة وكيفية السيطرة عليها, ليديم انسان الكهوف حياته المهدد وباستمرار.

أما العمارة فقد أخرجت الانسان من عالم الى عالم آخر مغاير ومختلف ويضم معالم جديدة في الحياة , وفتح معارف , وفضلا عن هذا وذاك, جعل من الانسان مستقرا منظما كاشفا عن تطور عقلي وشعوري جماعي متماسك, مما ساعده على بناء ثقافته وان كانت شفهاهية, الا ان المخلفات التي تركوها , تشير الى طبيعة التفكير المتميز بنضج أكبر اذ كشفت التنقيبات في قرية جرمو (( فكانت الاوني من الحجر ومن المرمر, قد أخذت المنحى النفعي الى الجمالي, حيث كانت هذه الاواني متميزة بعروقها الظاهرة التي ظهرت بعد عملية الصقل, وتم العثور على350 أنموذجا )) (4). 
ولا يغيب عن البال , إن العمارة قد فتحت مجالا آخر للفن إلا وهو فن النحت, لالتزين منازل إنسان المستوطنات الأولى بقدر ما كانت الحاجة لخلق الموازنة بالمظاهر الطبيعية, القاهرة لوجودة , والمظاهر الاخرى التي شاهدها, وارتاحت نفسه اليها والتي تعني الوفرة والاستقرار والتكاثر.

 كما هو حال الارض/ الأم – الرؤوم للأنسان, التي وجد فيها المتكأ الذي يعمق في نفسه الطمأنينه, ويزيد في اعماقه الايمان في البقاء والتكاثر وبالتالي الاستمرار , اذ قرن الأم بالأرض, فانيثق عن ذلك تقديس للأم ,بوصفها مصدر التكاثرونمو الحياة , وعن طريقها يبسط الانسان ارادته , ويزيد الجماعة قوة وسطوة , مما دفعه لتقديس الأم, فخلق الام الآلهة .
ان الاهتدأ الى فن النحت , في عصور ماقبل التاريخ , يعد بناء لعمق التفكير, وايجاد مساحات للتعبير عما يقلق الانسان ويروعه ,اذ عكف انسان تلك المستوطنات الأولى الى نحت أعداد من الآلهة الأم,ودخلت بوظائف الحماية والرعاية , تلك التي حملها بني البشر لهذه المنحوته الصغيرة والتي انجز منها بالعشرات, بجلسة القرفصاء وبصدرها الممتليء وعجزها الكبير , اذ كانت الأنوثة هي الطاغية .
إن شكل المنحوته يشير الى مناطق الخصب, وفي ذلك اشارة الى الأرض وبقي هذا المعتقد راسخا بالعقل البشري, باعتباره أوجد نقطة المركز التي يتقرب اليها عقائديا , إلا انه صاغ حاجة أخرى بذات الأهمية في الوقت ذاته , انه خلق نوع آخر من الفن – النحت – الذي التصق لاحقا بالإنسان أسوة بالعمارة.

 بكلمة أخرى, أقترن النحت بالعمارة وشكل حلقة من حلقات التطور المعرفي, وتجلى ذلك بوضوح كبير في الحضارات الاولى للعراقيين القدماء, واصبح النحت امتداد لقوة تلك الحضارة , وسجلا لحروبها وانتصاراتها, وتعبيرا عن قوة الحضارة وصرامتها, كما يتاكد ذلك في حضارة بابل وأشور , وغيرها
ان تداخل فنيَ النحت والعمارة, جعل من النحت سجلا للأحداث وطابعا فنيا يجتاز عاديات الزمن , وراح النحت يسطر جماليا, طبيعة التفكير والنهج السائد , والأزياء , وروح تلك الحضارة , والأفكار التي تتسيدها وتتمحور فيها.

إن جمال النحت هو صياغة لعبقرية تلك الحقب, وكشف عن طبع فريد لأنسانها الذي تشرب بعمق البعد الميتافيزيقي من جانب , والقوة والبطش والاندفاع والاستماتة دفاعا عن الحضارة من جانب آخر.

لقد ساعد النحت العراقيين القدماء بخلق موازنه بين الطبيعة التي يعشقونها والعالم الميتافيزيقي, ففي الوقت الذي حافظوا على الآلهة وتخصصاتها المتعددة , لم يبخسوا حق الحياة ونواحيها الممتعه ,فالنحت عبر عن روح الانتصار ونشوته, والقوة وفتنتها العذبة , ولاحقا شكل النحت طريقة تفكير الانسان في الحضارات الكبرى المتعاقبة مثل بابل واشور , ان الجذر الفني والثقافي لتلك الحضارات العظيمة هو القرى والمستوطنات التي سكنها انسان ماقبل التاريخ وارسى وجوده وقيمه التي تطورت وتعاظمت على مر العصور وشكلت عمقا أنثروبولوجيا غنيا.
ان جمال تلك المستوطنات يكمن بالدرجة الاساس , كونها فتقت العقل وكشفت عن نمو للتفكير في حقبة تاريخية فاصلة في سجل البشرية قاطبة , بوصفها شكلت التماعا عجيبا للبنية الذهنية لإنسان تلك المستوطنات , وما العمارة وماتحملة من ابتكار وتنظيم وصياغة بالعلاقات المكانية , وتأكيد الشعور الاجتماعي وتعميقه , وتعبيد الطريق نحو ميتافيزيقا كونيه. ان ذلك يدلل ان العقل البشري وان كان في أطوار نموه الاولى , كان يبتكر ويطرح التساؤلات , ويجتهد بايجاد الاجابات . 
إن نسق ثقافة انسان المستوطنات لم يقف عاجزا امام الطبيعة ومظاهرها , بل عكف وبقوة على فرض نظامه المتواضع على الطبيعة,لحماية نفسه ومجتمعه, وما ابتكارته إلا جوابا على سخط الطبيعة التي لم يخف خوفه منها وقلقه على وجوده , فجاء نشاطه تعبيرا عن شغفه بالحياة وإرادته المتحدية للمخاطر التي وضع لها آلية للسيطرة عليها.

وإن عجز فانه لم يعجز عن خلق آله يًعبده ليقيه من تلك المظاهر المدمرة عند الضرورة, من أي ضرر يتربص به. وبذلك ابدع العمارة لحاجته لها,فقد خرجت عن وظيفتها ودخلت نسق وجوده وصارت تعبر عن علته في الوجود, وكأن انسان المستوطنات يفلسف الحياة بوصفه كينونة في الوجود,وهذه الخاصية نتلمسها بفعل تراكم المعرفة,وتطورها , بفعل الاجتهاد فقد تداخلت الفنون: العمارة والنحت والشعائر والطقوس وولدت نسقا ثقافيا مذهلا في حقبة الانقلابات والتحولات البشرية الكبرى.

وقد كان الفن حاجة لابد منها, وضرورة لضمان نماء الانسان , ليشرأب في الحياة .

المصادر والمراجع :

النسق الثقافي: ويقصد به الارضية التي تنطلق منها جميع انماط السلوك, وهي ايضا مجموعة القيم المادية والروحية التي يشترك 
بها اعضاء المجتمع الواحد.
(1)فرانكفورت.اجون,أ,ولسن .توركيلد جاكبسون, ماقبل الفلسفة , ترجمة 
ابراهيم جبرا ابراهيم,مراجعة محمود امين,القاهرة : مؤسسة 
فرنكلين المساهمة للطباعة,1960,ص ص: 14-15.
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(3) د.تقي الدباغ,د. وليد الجادر .عصور ماقبل التاريخ, بغداد :جامعة بغداد ,1983 , ص130.
(4) المصدرنفسه 
(5) د. وليد الجابر .حضارة العراق_ النحت ,جزء 4 جامعة بغداد ,1983 , ص136,
(6) د.تقي الدباغ ,ود.وليد الجادر , مصدر سابق , ص 141
(7) غسان النمري .مكانة عين غزال , اربد : دار الكندي ,2002,ص ص: 60 – 100.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق