الأدبالثقافةالفكرغير مصنف

الناقد العراقي صابر المعارج يكتب عن قصيدة الغرباء للشاعر التونسي البشير عبيد

صابر المعارج – العراق

في الوقت الذي كانت فيه أذن المتلقي واسطة بينه وبين النص الشعري العمودي الحافل بمسيقاه الصاخبة، تجده الآن أمام نصٍ مُخاتل تعجز المقاربة السمعية عن إدراك مكوناته الإيقاعية، حيث تتوارى الأوزان العروضية، وتختفي أو تكاد القافية ويخفت الرنين الخارجي “الموسيقى” بيد إن ثمة موسيقى داخلية وإيقاع هادئ تعزفه المفردة المشحونة بالمعنى، المنثالة بالانزياحات البلاغية، الضاجة بالادهاش المقرونة باتساع الأفق التأويلي الناجم عن ضغط الجملة الشعرية وتكثيفها إلى أبعد الحدود:
“على خاصرة الدهشة قابعون…
يستلذون بقتل أحلامهم على ضفاف
الصمت “
“حين ارتوى الطقس بماء الانتباه
و الفتاة التي خفية غازلتك
تمتد جسرا لعبور الظلال”
“والفتى المسكون بالصحوة النادرة… “
وفضلا عن ذاك يجد القارئ نفسه مدفوعا وبحبور إلى التأمل والتخيل لاستكمال الصورة الشعرية التي خط الشاعر التونسي البشير عبيد ملامحها وترك له نحت التفاصيل ورش الألوان في مخيلته…
ولأنني لست في صدد الأسهاب في سرد تفاصيل النص، لذا سأعرج على السمة الأبرز التي شغلت الكثير من مساحات مخيلة الشاعر واستحوذت على جل مفرداته إن ظاهرا أو ضمنا في سياق المعنى ألا وهي الانهمام بمفرة” فتى، فتاة، فتيان ولد اولاد…” فقد وردت إحدى عشرة مرة
بما فيها”حنظلة” حنظلة الفتى ذو العاشرة.
وأحسب إن كل الفتيان في نص شاعرنا البشير عبيد هم حنظلة
“كأنك لم تكن تودع قبل حينٍ حنظلة…”
“فتيان الحي العتيق هنا…”
“والفتاة التي خفية غازلتك…”
“والفتى المسكون بالصحوة… “
“يجيء الولد مجهشا بالارق… “
“هذا الطريق الطويل يسلكه الأولاد… ” إلى… آخره.


ولا عجب فنحن كمتلقين قراء أو دارسين ومعنا الشاعر ذاته، لا يرد إلى أذهاننا اسم ناجي العلي إلا وهو مقترن بحنظلة العاقد ذراعيه خلف ظهره وذخيرته حجارة! وهو رمز لكل فتى وفتاة فلسطينية، وما تحمله صورته من ألم الأبعاد القسري وشجن الوقوف وحيدا يخوض غمار محنته وحنين العودة التي طال انتظارها.
كما أنه علامة فارقة في مسيرة ناجي العلي الفنية والنفسية معا!
:”ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره! ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود لها سيكون بعدُ في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء…” ناجي العلي.

الشاعر التونسي البشير عبيد

وفي الوقت الذي سادت فيه حالة الاحباط والوهن التي أصابت الأمة كنتيجة حتمية لفرقتها وتشتتها:
” الصحف أعلنت موت العناقيد”
” على خاصرة الدهشة قابعون
يدخنون سيجارة تلو أخرى
يستلذون يقتل أحلامهم على ضفاف
الصمت”
والغصة التي يمور بها النص، بموازاة ذاك برع الشاعر في رسم إفق واسع للأمل والتفاؤل بالأجيال الناهضة والتي لاتستكين:
“كأني بأحفادهم لا يعرفون الهوان…”
“هذا الطريق الطويل يسلكه الأولاد”
“لن تعبث الأغصان بالغد
الاتي”
“و القرى المقطوعة الحناجر لم تضيع
أسراها
و لا قتلاها….”
هذه القصيدة إنموذج على حياة قصيدة النثر ومقارعتها للقصيدة العمودية، واثباتها لذاتها وكيانها بعيدا عن قيود الأطر والقولبة.
النص:

الغرباء البشير عبيد/تونس
إلى روح ناجي العلي
فتيان الحي العتيق هنا
على خاصرة الدهشة قابعون
يدخنون سيجارة تلو أخرى
بستلذون يقتل احلامهم على ضفاف
الصمت
كاني باحفادهم لا يعرفون الهوان
اتهرب عن يدك عنقود السقوط ؟
حين ارتوى الطقس بماء الانتباه
و الفتاة التي خفية غازلتك
تمتد جسرا لعبور الظلال
و الفتى المسكون بالصحوة النادرة
يستضيء بشمع الكلام الأنيق
يكتب شهادته الأخيرة
يحتسي قهوته على عشب المدى
هل يمنحني ضلعه المستميت
لاشهر صمتي في وجوه الذين لم بعلنوا
عشقهم
لصدى الأمنيات

هل بامكان الفتى ان يكحل عيون النساء
قبل الغروب
حين تلامس ضحكتي ورق العنب
يجيء الولد مجهشا بالارق
فتيان الضواحي جاؤوا هذا الصباح
ذاهلين لانكسار العواصم…
و الجسد المهشم في جهة ما
يومىء الجنبن القابع في خلاياي:
صبايا الحي ارتحلن
و لم لا أحد يمعن النظر في وجوه
الآتين من هناك…
ليس الحرير على مقاس الجسد
و لا أثر لاقدام الفاتحين
على أرض “الخليل”
هذا الطريق الطويل يسلكه الأولاد
مثلما سلكته الشاحنات
دفاعا عن الموت المغاير
وحده يباغتهم بالكبرياء
كان اندهاش الورد ممزقا بين الضلوع
و خلف خيوط النهوض
اعتلى الهمس زوايا الامكنة
أين أصدقاء الطفولة؟
ذهبوا ةالى حانة بلا قوارير…
هو ذا الولد الذي ادهشته الأغاني
و الثالث من يناير
لم يرتبك حين رأى عطش الاقاليم
كم شردته الكلمات
و اغمضت جفنيها على ركبتيه فتاة
الضاحية

الصحف اعلنت عن موت العناقيد
بالامس قال لي: لن تعبث الاغصان بالغد
الآتي
الماء دليل الطيور
الضوء نقيض المقصلة
هنا كانوا قاب قوسين من الزهر
و الجثث القادمة
أين اختفى صوت ناجي؟
و تلك الرسوم التي كادت تصيح:
غداً تاتي أم المعارك
و جاءت سريعا
كانك لم تكن تودع قبل حين حنظلة
إلى أين الرحيل؟
إلى حيفا٫حيث تمددت على خصرها قبعات
الجنود الاتين من خيام
الظلال
دمها مسكوب على صدرها
و صمتها ذهبي الملامح
للنوارس دموع مثل تيه المحارب
و القرى. المقطوعة الحناجر لم تضيع
اسراها
و لا قتلاها…
صابر المعارج /العراق

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق