الفكر

برّ الوالدين

الدكتور خالد عبد اللطيف

قال الله تعالى : “إما يبلغن عندك الكبر” وكلمة “عندك” تشير إلى أن واجب الابن أن يرعى الوالدين عند الكبر والضعف وأن يكون الوالدان فى رعايته وكنفه وعنده، فيقوم بخدمتهما وتقديم كل ما يحتاجان إليه.
وألا يتركهما فى مكان آخر أو استراحة أو دور المسنين إلا عند الضرورة، حيث لا يتمكن من توفير المكان الذى يريحهما، ولسنا ننقص من قيمة دور المسنين، ولكن نقول إذا كان من الممكن أن يقيما فى كنف ابنهما كان هذا أفضل وأكمل وأوفق للهدى القرآني: “إما يبلغن عندك” أى أن يكونا فى كنفه ورعايته، وخص مرحلة الكبر، لأنها المرحلة التى يكون الوالدان ضعيفين فيها ويحتاجان إلى المزيد من الرعاية والخدمة والرحمة، وأمر الله بالقول والفعل الحسن فقال “وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة” فأمر الابن أن يقول لوالديه القول الحسن الذى يشتمل على التوقير والاحترام، وأن يتواضع لهما بتذلل عليهما، ثم يرى بأنه مهما قال وفعل فلن يستطيع أداء ما يجب لأبويه فيكل الجزاء إلى الله أكرم الأكرمين فيدعو الله تعالى أن يرحمهما “وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا” عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: “آمين آمين آمين” قيل: يارسول الله علام أمنت؟ قال: “أتانى جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل آمين فقلت: آمين ثم قال: “رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل آمين فقلت أمين، ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين، فقلت: آمين”، رواه الترمذي.
ولأهمية بر الوالدين جعل الله برهما مستمرا حتى بعد وفاتهما وذلك بالدعاء لهما والاستغفار لهما وغير ذلك من أمور البر كما جاء فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد بالسند عن أبى أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدى قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يارسول الله هل بقى على من بر أبوى شيء بعد موتهما أبرهما به؟ فقال: نعم خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التى لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذى بقى عليك من برهما بعد موتهما، رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة.
بل إن المتتبع للهدى النبوى الحكيم يرى أن فيه تأكيدا وتفصيلا لما جاء فى القرآن الكريم، فأهمية بر الوالدين تتقدم على كل العبادات بل إن بر الوالدين يوازى الجهاد ويفضل عليه أحيانا وخاصة


البر بالأم كما جاء فى الحديث عن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أردت الغزو، وجئتك أستشيرك فقال: “فهل لك من أم”؟ قال: نعم قال: “فالزمها فإن الجنة عند رجليها”.
وبعد ذكر بر الوالدين جاء الأمر بإعطاء ذوى القربى حقوقهم وصلة الأرحام والنهى عن التبذير وقد جاء فى الحديث: “أمك وأباك ثم أدناك أدناك” وفى رواية: “ثم الأقرب فالأقرب” رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: “من أحب أن يبسط له فى رزقه وينسأ له فى أجله فليصل رحمه ” رواه مسلم.
لقد أمر الله تعالى بإيتاء كل من له قرابة حقه من الإحسان وإعطاء المحتاجين من المساكين وأبناء السبيل، وابن السبيل هو الغريب الذى انقطع به سفره قال تعالي: “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا” فكما أمر سبحانه بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون المنفق غير مبذر ولا مسرف، والتبذير هو إنفاق المال فى غير طاعة الله وفى غير حق، قال مجاهد لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق مدا فى غير حق كان مبذرا.
عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: أتى رجل من بنى تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يارسول الله إنى ذو مال كثير، وذو أهل، وولد وحاضره فأخبرنى كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تخرج الزكاة من مالك إن كان، فإنه طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين” فقال: يارسول الله أقلل لي، قال “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا فقال حسبى يارسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم إذا أديتها إلى رسولى فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها” رواه أحمد
ثم وضح سبحانه شأن المبذرين فقال: “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” أى فى تبذيرهم وارتكابهم للمعاصى وجملة “المبذرين كانوا إخوان الشياطين” تعليل للنهى السابق عن التبذير” وكان الشيطان لربه كفورا” أى كان جحودا لأنه أنكر فضل صاحب الفضل وأنكر نعمة المنعم ولم يقابلها بالطاعة.
“وأما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا” أى إذا توجه إليك بعض أقاربك وسألوك، ولم تجد ما تنفقه عليهم فأعرضت عنهم لعدم وجود ما تنفقه فقل لهم قولا ميسورا بأن تعدهم بوعد فيه لين وسهولة إذا رزقك الله أن تصلهم، فالكلمة الطيبة صدقة.
ثم أمر الله تعالى بالاقتصاد فى المعيشة وداعيا إلى المنهج الوسط فى الإنفاق فلا يبخل ولا يسرف: “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”، إنه يشبه البخيل فى عدم مد يده بمن حبست يده وشدت إلى عنقه فلا يستطيع أن يمدها بالإنفاق وهذا تمثيل للبخيل أى لا تكن بخيلا مناعا للخير، كما نهى عن الإسراف وبسط اليد” فتقعد ملوما محسورا” أى تصير مذموما من الناس منقطعا من المال “إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعبادة خبيرا بصيرا” أى يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء.
لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمصالح العباد، وهو القابض والباسط ولقد جاء فى السنة النبوية الشريفة مثل البخيل والمنفق عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: “مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى ترافيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفى بنانه وتعفو أثره.
وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة منها مكانها، فهو يوسعها فلا تسع، رواه البخارى ومسلم. وللمنفق منزلته ومكانته إنه يحظى بدعاء الملك له كل يوم بأن يخلف الله عليه على عكس البخيل الممسك. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا” رواه البخارى ومسلم. وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن المال لا ينقص بالصدقة، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الشح وهو أشد البخل وبين خطورته وأنه يصل بصاحبه إلى الفجور عن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا” رواه أحمد.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق